الحراك الشعبي في المجتمعات الغربية الذي تجسد في حملة «احتلال وول ستريت» الذي انطلق في الولايات المتحدة في 17 سبتمبر أي قبل حوالي 36 يوما، وانتشر في كافة المدن الأمريكية هو بداية لحراك واسع من المتوقع أن ينتشر ويتحول إلى حراك وتظاهرات وقلاقل ربما تهز المؤسسات الأمريكية في الأسابيع القادمة وربما يتلاشى تأثيرها عبر
الوقت.. ويعمل الإعلام الجديد على بناء هذه الحركة حيث مواقعها الالكترونية مفتوحة للجميع، وتحمل شعارات قابلة للتحميل وجميعها تسعى إلى فكرة محورية وهي أن الناس أو الشعب يجب أن يخطو نحو استعادة حقوقهم ويجب على الناس أن يأخذوا دورهم ويعملوا على فعل حقيقي بهدف التغيير.
ومحورية العدالة هو أساس هذه التظاهرات أو بالأحرى الاعتصامات، فيرى هولاء ان 1% من السكان يملكون ما يعادل أو يزيد على ما يملكه 90% من باقي الشعب، ويقصدون في ذلك الشعب الأمريكي. كما أن من أهم شعارات هذه الحملة هو العلم الأمريكي وفي ركنه الأعلى الأيسر علامة رقمية (99%) وتعني ان هذه الحركة تستهدف 99% من سكان الولايات المتحدة المحرومين، وهي موجهة إلى الـ1% من السكان الذين يملكون كل شيء في المجتمع، وهؤلاء هم سكان وول ستريت، قيادة وملكية الاقتصاد الأمريكي.
وقد حاول الرئيس باراك أوباما ان يختطف هذه الحملة بإعلانه عن تأييده لها، محاولا أن يجيرها لصالح مواقف تبناها ووقف الكونجرس ضدها في قوانين اقتصادية، وخاصة تلك المعنية بقوانين الحد من البطالة. وإذا نظرنا إلى مثل هذا الحراك الشعبي نجده مشابها لكثير من التظاهرات الموجودة في العالم العربي، مثلما حدث في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن.. بل إن المحفز الأساس لمثل هذه الجماعات كان ميدان التحرير بالقاهرة، فقد أصبح رمزاً عالمياً في التغير السياسي والاجتماعي.. كما أن إرهاصات مشابهة حدثت في الصيف الماضي في إسبانيا كانت أيضاً مثار تحفيز للجماعات الأمريكية..
ومن يتفحص هذه الحركة لابد ان يعود به التاريخ إلى أحداث مشابهة عمت الولايات المتحدة وغيرها من المجتمعات الغربية، ويأتي في مقدمتها أحداث مايو من عام 1968م في فرنسا..
فعندما اهتزت فرنسا وجميع مؤسساتها في عام 1968 بسبب المظاهرات والإضرابات التي اجتاحتها لم يكن متوقعا ان تنهار الحكومة الفرنسية الديجولية وحسب، بل كان متوقعا أن ينهار كامل النظام الفرنسي.. وكان العد التنازلي لانهيار النظام قد بدأ عندما انضمت نقابات المصانع والعمال إلى حشود الطلاب الساخطين على النظام التعليمي وخاصة الجامعات.. إضراب عن المحاضرات ومقاطعة الامتحانات في الجامعات كان أبرز سمات الاحتجاج الطلابي.. ولكن هذه التظاهرات الطلابية كانت مؤسسة على أعمال فلسفية لكتاب وعلماء وفلاسفة قدموا الأرضية التي مهدت لبناء فكر جديد أو ما يمكن ان نسميه خطاب discourse جديد..
البروفيسور ميشيل فاوكو هو أحد أبرز الرموز التي ظهرت على السطح، حيث كان قد عمل منذ بداية الستينيات، أي قبل التظاهرات بسنوات قليلة. فقد تحدى الخطاب الذي كان سائدا بقراءاته عن تاريخ العلوم ومنهجياتها وخاصة تلك العلوم الإنسانية، وطرح أسئلة لم تكن معهودة في الجامعات الفرنسية والأوروبية، حتى من قبل المفكرين الشيوعيين، فقد كانت الجامعة هي المرجعية حتى لتلك المدارس الراديكالية. ولكن فاوكو قد فرض اسئلته الجديدة التي بدأت تشكل خطابا جديدا في الحياة العامة الفرنسية، وبتأثيراتها وتداعياتها على النخب العلمية بمن فيهم طلاب الجامعات، وقد بدأ هذا الخطاب يظهر ويتداول وبتأييد من الفكر اليساري والفكر الفوضوي أو الراديكالي..
ما يلفت النظر في مظاهرات باريس الستينيات واعتصامات نيويورك عام 2011م هو التأسيس الفكري المصاحب، فبينما تخلو اعتصامات نيويورك من تمهيد فكري أو تأسيس نظري، الا ان مظاهرات فرنسا قد حملت معها سنوات من التأهيل الفكري للمتظاهرين وخاصة الطلاب في جامعات السوربون وغيرها من الجامعات الفرنسية.. وما يلفت الانتباه في جميع المظاهرات والاعتصامات في المجتمعات الغربية هو كونها تصب في إطار مؤسسات وتحتمي بها في أكثر الأحيان.. كما أن المؤسسة تعمل على اجهاض هذا الحراك الشعبي من خلال القانون والنظام العام.. فمثلا في تظاهرات فرنسا سقطت الحكومة الفرنسية، وتم الاعلان عن انتخابات جديدة وبسرعة، ولكن نتيجة الانتخابات أحضرت معها مزيدا من الثقة بنفس الحكومة.. وهنا في اعتصامات واحتجاجات الولايات المتحدة الأمريكية تحاول الحكومة بقيادة باراك اوباما ان تختطف هذه التظاهرات الاحتجاجية وتجيرها لمصالح حزبية.. ويحاول الرئيس الأمريكي ان يستقوي بهذه المظاهرات لصالح تصويت الكونجرس على إجراءات وقوانين جديدة يرى انها يمكن ان تفسح المجال لملايين الفرص من الوظائف.. وما يميز استراتيجيات مواجهة الخلافات والصراعات والنزاعات في المجتمعات الغربية هو ما يمكن ان نسميه مأسسة الصراع، أي بناء قنوات له داخل النظام الاجتماعي ليبدأ وينتهي داخل اروقة القانون، بينما الدول النامية تفتقر إلى مثل هذه الأنظمة التي يمكن أن تحتكم اليها جماعات الاحتجاج.. وبناء على ذلك يمكن أن تسقط مظاهرات بسيطة حكومة ونظام مثل تونس، بينما مظاهرات أشد وأقوى وأطول مدى منها لا تستطيع ان تحرك ساكنا لنظام سياسي مثل فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية..
وبدأت وسائل الإعلام الغربية تطيح بأهداف وفكر هذه الحركة الجديدة التي لا تزال متواصلة، فتركيزها على الإخلال بالأمن والنظام، أو التشكيك بأهدافها، أو الإعلان عن غياب مثل هده الأهداف، أو دعوتها لمناصرة قوانين حزبية أو إجراءات حكومية كلها محاولة لتفتيت الحركة، وتحويلها إلى جزيئات وتعريتها من آليات عمل وفكر براجماتي.. ويبقى توضيح ان الفرق بين الفكر الأوروبي والفكر الأمريكي جليا في تناول الصراعات المجتمعية في بلدانها، فالفكر الأوروبي بعمقه يبحث عن مخارج نظرية وتفسيرات تاريخية، بينما الفكر الأمريكي يتسم بالبراجماتية.. وهذه البراجماتية هي التي تغذي وسائل الإعلام بالمادة التي تحتاجها لمواجهة هذه الحركات.
رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa