التصاعد التدريجي البطيء للتصريحات الأمريكية ضد النظام السوري، مقارنة مع حدتها وسرعة تأججها ضد مبارك، يفصح عن الفرص التي أتيحت للأسد كي يقمع الثورة ويريح الأمريكيين من عناء البحث عن بديل لن يكون على الأرجح متعاوناً - كما ينبغي-
في ظل ديمقراطية يخشى معها أن يختار الشعب السوري أكثر أعداء أمريكا حماساً، قولاً وفعلاً، وعندها لن تكون الجبهة هادئة ومحمية كما هي حالها في ظل الرئيس السوري الحالي.
وخلال الأشهر الستة من عمر الثورة السورية، درج الأمريكيون على إطلاق تصريحات متباعدة، زمنياً، تتكئ على تنويع لفظي واهٍ بدءاً من دعوة النظام إلى الإصلاح، مروراً بالثقة في قدرة الأسد على التغيير، وصولاً إلى جملة عبثية وركيكة في ترجمتها العربية: ((الأسد ليس شخصاً لا يمكن الاعتماد عليه!))، ثم الأمل في الانتقال السلمي للسلطة، وانتهاءً بـ(دعوته إلى التنحي) و(مطالبته بالتنحي) و(الطلب منه أن يتنحى)!
والأرجح أن الأمريكيين، في هذا الخط البياني الفاتر، يماطلون في حسم المسألة السورية لأسباب يتعلق بعضها بتحولات الربيع العربي عموماً، ويتصل بعضها الآخر بخصوصية قاتمة ومعقدة يتسم بها الشأن السوري إقليمياً (على المستوى السياسي بأحوال دول الجوار المتناقضة) وأيديولوجياً (على المستوى الشعبي برفض التدخل الخارجي).
الأمريكيون، كجميع أعداء الأسد ومعظم أصدقائه، يرغبون في بقائه ضعيفاً ومشوشاً بمشكلات داخلية تصرفه عن مشاغلة جيرانه واللعب بأوراق طائفية وإثنية، لكن إصرار الشعب السوري بأسطورية مذهلة على مواصلة ثورته يضعهم أمام حرج أخلاقي وسياسي يبدو أنهم ماهرون في التملص من تبعاته بإلقاء اللوم على ضعف الموقف العربي تارةً، وعلى تشتت المعارضة السورية تارة أخرى (قبل أن تلتئم في مجلس موحد).
وإذا كانت القوى الغربية وجدت في البلدان المتحررة الثلاثة من «تتفاهم» معه، فلم تتأخر عن نجدتهم، فإنهم أمام معضلة الشأن السوري مكبلون بموقف شعبي صلب يرفض التدخل الأجنبي، وهو موقف تزعم كلينتون أنها تحترمه (في تصريح منتصف آب - أغسطس)، لكنها في الواقع تومئ إليه كعقبةٍ تحول دون انفراجة قريبة.
ومع تأسيس المجلس الوطني السوري، يبدو أن هذه العقبة تأخذ طريقها إلى الزوال، فرغم اللهجة الحادة التي طبعت خطاب برهان غليون حول التدخل الأجنبي، فإن المجلس أبقى الباب موارباً أمام احتمالاتٍ جديدة قد تفرضها التطورات على الأرض، فاشترط الشرعية الدولية ضماناً لأي تدخل مستقبلاً.
وفي هذه الحال، يبقى على النظام السوري أن يلعب الدور المزري في هذه الملحمة بأن يستمر في القمع والتنكيل حتى يصل الشعب إلى مرحلة يتخلى فيها عن مثاليته ويكفر بالمبادئ الراسخة فيطلب العون حتى من الشيطان الذي يتجلى في صورة العم الفاضل سام، الجاهز دائماً لفعل الخير، على أن تكون المناشدة الشعبية بليغة وصريحة وواضحة ولا تشبه التصريحات الأمريكية المراوغة!.
وحتى الآن، لا يبدو أن السوريين مستعدون لتقديم تنازلات مبدئية لقاء التخلص من النظام، فهم يعوّلون على بسالتهم في مقارعة البطش، مدفوعين بإيمان عجيب بالذات، آملين في أن تسهم العوامل الداخلية (اقتصادية وعسكرية) في تفكك النظام وانهياره، مرجئين التنازل الذي ينتظره الأمريكيون ليتدخلوا مقابل تعهد بجبهة هادئة كالتي يرعاها رامي مخلوف.
ولا يزال النظام يستثمر هذه الحساسية التي تعتري السوريين - حتى المعارضين منهم- لدى الحديث عن تدخل أجنبي (عسكري على وجه الخصوص)، وهي حساسية أخذت بعداً كابوسياً مع أحداث ليبيا التي أرقت مضاجع الناس بمشاهدها المأساوية، ولهذا استغل الإعلام الحكومي تسمية إحدى الجمع (جمعة الحماية الدولية) ليروّج في بكائية طويلة أن الثوار يطالبون بضربة عسكرية للبلاد، وهو منحى يستدعي «التخوين» في العرف السوري العام وترفضه الأغلبية الساحقة من المعارضين في الداخل والخارج، لكن «الحماية الدولية» مصطلح ملتبس ومفتوح على تأويلات شتى، لولا أن الثوار اجتهدوا في تأكيد أن الضربة العسكرية لم تكن في حسبانهم حين اقترحوا هذه التسمية ولا في وارد تطلعاتهم مستقبلاً، بل كان الهدف حماية المدنيين من العنف بإجراءات وقائية ليس من بينها ضرب أهداف على الأرض.
ولا تختلف حال المجلس الوطني كثيراً، فأعضاؤه - أو معظمهم على الأقل- لا ينفكون عن ترديد اللاءات الثلاث بتصلّب واضح، وليس في وسعهم التخلي عن (لا) المتعلقة بالتدخل الأجنبي دون تفويض صريح يوقعه المتظاهرون على لافتاتهم للتعبير عن موقف سياسي مستجد.
وحتى ذلك الوقت الذي قد يأتي وقد لا يأتي، حسب قدرة الشعب على الصمود في هذا الامتحان العسير، تبقى المواجهة مفتوحةً بين نظامٍ يدفع شعبه باتجاه خياراتٍ مُرّة، وثورةٍ توحي ملامحها البطولية أن صنّاعها لن يتنازلوا عن مبادئهم بسهولة، وفي الوسط هناك من يقف متربصاً ينتظر لحظة الحسم بين الطرفين.