في الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي وما توالد منهما من مراكز حضارية, تأصلت ثقافة الاستشراق ترسم الشرق من أقصاه إلى أدناه نسبة لأوروبا على أنه مختلف عن- بل ومعاد للثقافة والقيم الغربية -من الديمقراطية إلى العدالة والمساواة- وتعزو ذلك إلى كونه تجمعات بشرية متخلفة قيمياً وفكرياً ومجتمعياً. واستبدلت صيغة احترام التقدم العلمي الإسلامي في عصور الظلمة الأوروبية, بصيغة تصنيف المنطقة بعداوات دينية تقصيها من مظلة التسامح والتصالح العولمي القادم. حتى انتهينا بتبني فكرة صراع الحضارات واستشراء الإسلاموفوبيا.
وزاد الطين بلة ردة الفعل الأخيرة التي طالبت بالارتداد والانغلاق والرفض والتراجع إلى الماضي ليس من حيث النهضة العلمية بل من حيث المظاهر المميزة التي يقصى بها الآخرون وتغلق الأبواب دونها فاختلطت الغفوة بالصحوة لتنحدر إلى تخدر نشوة فئوية تحلل الإرهاب ضد الآخرين. ولا يختلف في ذلك الانتشاء الأعمى متشددوا أي عقيدة دينية بعينها. سواء كانوا هندوسا أو مسلمين.
أفاق الآسيويون سريعا على فشل هذه التوجهات المنادية بالانغلاق والعودة إلى الماضي «المجيد» وأنها تضر الحاضر ولا تبني مستقبلا فنفذوا من شر أحبولة تخلف ينسجونها بأنفسهم وتخنق مستقبلهم.
ومن اليابان وكوريا ثم الصين إلى الهند أشرع التقدم التقني المرحلة البناءة بعد انتهاء عصر الانغلاق والعسكرة وقطع إنشوطة الإيمان بالتفوق الغربي والتخلف المحلي. وباشروا التقدم العلمي بعيدا عن سيطرة الغرب والالتزام بتوجه رغباته ومصالحه. هكذا استطاع الآسيويون أن يكسروا تأطيرهم بالتخلف وتقييدهم فقط في حضارات أسلافهم ليجبروا الغربيين والعالم كله - عبر ترسيخ تميز منجزاتهم الذاتية الحقيقية في الزمن الحاضر - أن يغيروا تحيز تصنيفهم من مجرد مقلدين لمخترعات الغرب؛ وارتقوا إلى مراتب محترمة مثل: «أفضل المصنعين جودة» و»أفضل المضيفين للابتكارات والتقنيات العلمية», كما أسسوا ورسّخوا تداعم «النمور الآسيوية» في تكتلات تحمي مصالح المنطقة الآسيوية اقتصاديا.
كل هذا حدث خلال عقود بينما ظلت منطقة الشرق الأوسط من أفغانستان حتى المحيط الأطلسي عاجزة عن التحرر من ندوب الاستعمار الغربي من جهة, وسرطان الصراعات السياسية بين التيارات المتشددة دينيا, وإرث المصالح الغربية المصرة على احتكار السيطرة عليهم.
وفي قلب المساحة المتأزمة سياسيا وحضاريا جاء تدفق النفط في بدايات القرن المنصرم ليزيد الصراعات والتشبث بالسيطرة على مواقع الآبار بأية طريقة ووسيلة وتحت أي مبرر. فحين اكتشف النفط تغيرت أهمية الأراضي التي تحتويه وأصبحت المناطق التي لم يدجنها الاستعمار لقرون مديدة مسرحاً لصراع المصالح الاقتصادية والصناعية.
قبل هذا السيناريو ظلت صحارى آسيا وقلب الجزيرة بعيدا عن وجهة المستعمرين, ووضعها مختلفا عن السواحل, لا يستقطب الاهتمام إلا من قلة, لكونها بعيداً عن ممرات وبوابات التجارة البحرية. وبالتالي ظلت محتفظة بثقافة وأنظمة التجمعات الصحراوية وقيم البقاء فيها. ذاتيا ورث أبناء هذه الأجواء ثقافة الغزو وخوف الغزو، وهوس توقع الخيانة من الأقربين. كما تعلم بعضنا ممن احتكوا بالغرب ثقافة فوقية المستعمر, وتفخيم قدراته, والفخر بكونه يحترمنا, ولا يذلنا علنا؛ مما قادنا لاحقا إلى تقبل توجيه الضباع الناصحة: «دعونا نتخلص من الثور الأبيض وإلا أكلنا جميعا الأسد المتربص في عتمة الأجمة !». وقد لا نرى الأسد ولا الأبعد من ذلك: أن هناك من يسمم الأفكار متظاهرا بالمحبة لتأجيج الشك والغضب وتفكيك الصلات بين الأقربين! وهكذا ترسخت ممارسة سياسة «فرق تسد»؛ بجهالة منا, لأن بداوتنا لا تسبر أغوار المجاميع المستقرة خارج إرث التنقل بحثا عن كلأ موسمي؛ وباحترافية من غيرنا, صقلتها قرون من خبرة أطماع الاستغلال الاقتصادي. وإذ ننتهي باتهام بعضنا البعض, تزهر كل الظروف التي تخدم خطة «الفوضى الخلاقة « لتمسي المنطقة ربيعا مستمرا لتفريخ المستفيدين من قلقلة الأمن والفساد وأجواء الشك. وهكذا من قوافل الحرير والبهارات إلى ناقلات النفط العملاقة قرون خبرة ممتدة وفكر غربي تسلطي لم يتغير. فكر مادي يستغل نقاط ضعفنا عاطفيا. يظل همه في المنطقة صهيوني الهوى حماية إسرائيل والتحكم بالآبار النفطية وتقييدنا عن تغيير الخارطة بأنفسنا ولصالحنا عبر التدخلات حينا.. وعبر التوجيه المسمم المعلومات أحيانا أخرى.