لا يعرف المؤرخون، ولا المُحلّلون، الغربيون بخاصة، هل يسكبُ الحلم، في سيرة الملك عبد العزيز، ماءه في النهر، أم يأخذ النهر إلى مائه. هنا الزمان، وهنا المكان، وعبد العزيز عرف كيف يسبح مع الاثنين.
كان قادرا على أن يضع في الوطن أكبر نسبة ممكنة من ذاته، ليكون نفّاذا وقريبا، في الآن معا، على أن يبدأ من بداهة المواطنة، يُغريها ويُخصصها ويستدخلها، في ما بعد، كي يُزوّج مشروعه لفكره. كان عبد العزيز يملك حضورا يُوازي جهاده وجهده، بذكاء لمّاح، وعقل تحليلي، وفكاهة وفتنة.
ولا بد أن طلّته وصوته وأداءه، وابتسامته الحيّة، فتنت مواطنيه أيضا. كان عبد العزيز الزعيم، يملك ذلك الوعي الشفّاف، الذي يجعله يفرزثقافة خاصة من المواصفات والتقاليد الاجتماعية.
في ذكائه لم يكن يكره شيئا كالبلادة والسخف والتكاسل. ولقد أعاد ابتكار نفسه وسط مواطنيه. لم يُطوّر أداءه في بناء مجتمعه فحسب، بل بنى استقلاله وفرديته ورؤيته الخاصة. ومع الوقت كان يزداد وعيا لشخصه وفكره. ومع الوقت كان يزداد نضجا ونقدية، وإصغاء وتواضعا. آمن، وهو يعاني غربة التهجير في الكويت، أنّ هنا، في الرياض، ساحة الجهود التي تبني الإنسان الحرّ، وأن لا ساحة لقادة يُبشرون بالخراب والخلاف، كي يُمسكوا بقراري الحياة والموت.
آمن أن منطق التحوّلات الطبيعية والحتمية، لا يمكن مُخاصمته، وأن المُستحدث المُغيّر، والحيوي، يُنقّي الجسم من الشوائب والأعراض، وأن الحضارات - حتى الحديث منها - تستعيد ماديتها وخصوبتها المُتفاعلة مع سنن الكون، كلما خضعت لاجتثاث الطفيلي المؤذي والمُعسر منها. وتلك حكمة المزارع المبدع كل ربيع.
لقد قاد عبد العزيز تحوّلات جذرية في شبه الجزيرة العربية، بل وعلى مستوى العالم. والتحوّلات مخاض. مزيج من الألم والفرح. تندفع التحوّلات من النبع القديم، لتُنقّي ماءه، فيغدو فتيا.
إنها إنتاج الهوية والتاريخ، وبشكل خاص الزمن السائر إلى الأمام. التحوّلات صرخة المستقبل التي يُطلقها الطفل لحظة الولادة. ليست التحوّلات التي قادها عبد العزيز عن مجاري الأنهار والدروب الأليفة، بدافع السأم، أو التنكّر للجذور. إنها رحلة المسكون بالحياء.
كان الوطن معجزته التي اكتشف أنه، من خلالها، يستطيع أن يكون عربيا مسلما، بعمق وكثافة.
Zuhdi.alfateh@gmail.com