كنتُ قد كتبت مقالة بتاريخ 17-8-1432هـ بعنوان (وكل الفصول ربيع للصهاينة)، ثم أعقبتها بعد أسبوع من ذلك التاريخ بمقالة أخرى عنوانها: (لماذا كل الفصول ربيع للصهاينة؟).
ومما قلته في المقالة الأولى: تشير وسائل الإعلام بتعبير (الربيع العربي) إلى الهبَّات الشعبية التي قامت في بعض الأقطار العربية. وهذه الهبَّات انتفاضات لشعوب مكبوتة ضد متحكمين في تلك الأقطار، ظلوا عقوداً من الزمن يتفننون في ارتكاب أعمال سيئة ضد أوطانهم وغالبية مواطنيهم.. وإذا كان لأمتنا العربية ربيع سياسي - كما وُصِفت أحداث الهبَّات - فإن كل الفصول ربيع بالنسبة للصهاينة وكيانهم المحتل لفلسطين. ويكفي دليلاً على ذلك ما حدث في السنوات الثلاث الأخيرة.
وفي المقالة الثانية محاولة للإجابة عن السؤال المطروح، وهو (لماذا كل الفصول ربيع للصهاينة؟). ومما قلته فيها: إن السبب الرئيس الذي أدى إلى وضع أمتنا المؤلم هو عِلّة باطنية في جسم هذه الأمة. وأشرت إلى شيء من الأحداث التي عايشتها دالَّة على معالم من هذه العِلّة، ابتداء من انفصال الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م، ومروراً بحرب 1967م وما تلاها من حرب استنزاف على الجبهة المصرية ومن قيام مَنْ قام من الفلسطينيين بأعمال غذَّاها مَنْ غذَّاها حتى أدت إلى مواجهة عسكرية دامية مع الدولة الأردنية.
وبعد:
فقد كتب الأستاذ الكريم عبدالرحيم جاموس في صفحة عزيزتي الجزيرة بتاريخ 29 شعبان 1432هـ تعليقاً على مقالتي، التي عنوانها: (لماذا كل الفصول ربيع للصهاينة؟). ومما ورد في ذلك التعليق القول بأني أجحفت في حق الفلسطينيين ومقاومتهم كثيراً، وأني قفزت على ذكر الانتفاضات الفلسطينية المباركة. وإني إذ أشكر لأخي عبدالرحيم تعليقه أود أن أبدي ما يأتي:
كل المنصفين يرون أن قضية فلسطين هي قضية أمتنا الكبرى، وكل قضايا هذه الأمة ذات علاقة بها مباشرة أو غير مباشرة. وكان للفلسطينيين جهادهم المشهود منذ أن ظهرت تلك القضية على مسرح الأحداث في المنطقة، وكان من أبرز محطات ذلك الجهاد ثورة عام 1936م. وكان للعرب من غير الفلسطينيين مواقفهم النبيلة العظيمة المساندة لذلك الجهاد، ولم يكن القسام والقاوقجي - رحمهما الله - وأمثالهما من الأبطال إلا رموزاً لتلك المواقف العظيمة النبيلة. ثم وقعت الواقعة بنكبة فلسطين عام 1948م، وقيام دولة للصهاينة على أرض تلك البلاد الغالية، وكان لتلك النكبة ما لها من تحطيم لمعنويات أمتنا. لكن انطلاقة الثورة الجزائية المجيدة عام 1954م كانت باعثاً لروح الأمل في نفوس هذه الأمة؛ لذلك لم يكن مستغرباً أن انطلقت كتائب الفدائيين الفلسطينيين عام 1955م من قطاع غزة، الذي كان حينذاك تحت الإدارة المصرية. وكان لمصر دورها العظيم في نصرة القضايا العربية، وفي طليعتها قضية فلسطين. وكل مَنْ تأمَّل سير الأحداث في تلك الفترة يدرك أن من أكبر أسباب العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956م، هو احتضانها، قيادة وشعباً، تلك الكتائب الفدائية الفلسطينية.
في ذلك الوقت كنت في المرحلة المتوسطة من الدراسة، وكنتُ ممن كتبوا قصائد معبِّرة عن الاعتزاز بكفاح الكتائب الفلسطينية الفدائية، ومظهرة لروح التفاؤل بالانتصار على الصهاينة. ومما ورد في قصيدة كتبتها عام 1955م، أي قبل ستة وخمسين عاماً، هذه الأبيات:
رفعوا راية الكفاح وشادوا
وحدة الصف فوق أثبت أُسِّ
فاعترى طُغمة اليهود ذهول
وأُصيبت مما رأته بمَسّ
فمضت في مسالك الغي تهذي
وهي ترنو إلى الحياة بيأس
قال بن جوريون الزنيم: سأقضي
في ليالي الربيع عيدي وعرسي
سأشن الهجوم حتى أواري
قوة العُرْب تحت أنقاض رَمْس
لينفِّذ هجومه أي وقت
فسيُلقى عليه أصعب درس
أيفوت الأسود من رام غدراً
أن ينال الحمى العزيز بدوس؟
وليوث الأوراس خير مثال
لبطولات أمتي غير حدس
تتحدَّى جحافلاً حشدتها
ضدها طغمة العدو الفرنسي
لن تكف النضال ما لم تُطهِّر
مواطن العز من خنا كُلِّ رجس
ومضت السنوات تلو السنوات. وفي عام 1965م انطلقت حركة فتح الفلسطينية الثائرة معانقة ومتممة لحركات كفاح فلسطينية أخرى. وكان للأستاذ فهد المارك - رحمه الله - دور في تقديم تلك الحركة إلى الملك فيصل - تغمده الله برحمته - على أنها حركة جهاد فلسطينية ذات توجُّه إسلامي، وتوافر للحركة من الدعم ما توافر، وقامت كما قامت الحركات النضالية الفلسطينية الأخرى بعمليات كفاحية ضد المحتل الصهيوني. وبعد حرب 1967م أصبح لأعمال حركات الكفاح الفلسطيني دور مقدَّر مشهود، وكان تنسيقها مع الجيش الأردني في بداية الأمر جميلاً رائعاً، كان من نتائجه معركة الكرامة المجيدة.
حينذاك كنت أدرس في جامعة أدنبرا باسكتلندا، وكنت مع إخوتي العرب والمتعاطفين معهم من المسلمين وغيرهم نقيم مناظرات ندافع بها عن القضية الفلسطينية العادلة وعن حركات التحرير الفلسطينية الباسلة. ولأن حركة فتح كانت الكبرى عدداً وعُدَّة بين تلك الحركات حينذاك كتبتُ قصيدة، عام 1968م، عنوانها: (الحل السليم)، قلتُ فيها:
حَلٌّ تصاغ بنوده دم
يجلو الأسى وغياهب الظلم
لا حل ألفاظ منمقة
خطت وصاغت ريشة القلم
كل القرارات التي صدرت
وتعاقبت من هيئة الأمم
بقيت كما كانت بلا أثرٍ
لا خففت بؤسي ولا ألمي
مفعولها حبرٌ على ورقٍ
ووجودها ما زال كالعدم
لم يبق لي حلم بقدرتها
عشرون عاماً بدَّدت حلمي
الحل عند (الفتح) عاصفة
تزداد عُنفاً كل ملتحم
شهمٌ فدائي وثائرة
وهجوم مقدام وضرب كمي
وكتيبة تمضي فتخلفها
أخرى تحيط الأفق بالضَّرَم
وفيالق في الدرب زاحفة
لتدكَّ صرح عدوَّة الأُمَم
وكثير من أبيات المجموعات الشعرية، التي صدرت لي، تتحدث عن القضية الفلسطينية وما مر بها، وتمر به، من أوضاع.
وقد نُشر لي سبعة كتب، غالب المقالات فيها، تتناول هذه القضية. وأول هذه الكتب (خواطر حول القضية)، الذي صدر عام 2003م، وآخرها صدر هذا العام بعنوان (بيع الأوطان بالمزاد العلني).
وعندما كتبت القصيدة، التي أوردتها في هذه المقالة، عام 1968م، كانت حركة فتح تمتاز بما ذُكر في تلك القصيدة، هوية ورؤية وعملاً. لكن هل ظلت على ما كانت تمتاز به؟ ربما قرأ الأستاذ الكريم عبدالرحيم جاموس مقالة الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي، المنشورة في صحيفة الحياة بتاريخ 4 رمضان، عام 1430هـ، بعنوان: (كيف خسرت فتح هويتها وملامحها الأولية؟). على أن لكل كاتب فلسطيني وغير فلسطيني رأيه. وعندما يتكلم المنصف عن حركة فتح، التي أصبح قادتها رأس السلطة الفلسطينية، فإن كلامه ينصب على هؤلاء القادة، لا على جماهير تلك الحركة المناضلين.
ما حدث بعد عام 1968م غير ما حدث في ذلك العام وما حدث قبله من حيث توفيق مواقف قادة فتح وعدم توفيقها من مواقف أولئك القادة غير الموفَّقة - في نظر كاتب هذه السطور - تصرُّفهم داخل الأردن الذي أسهم في خلق جو متوتِّر أدَّى إلى مواجهة عسكرية بين فصائل الفلسطينيين المسلحة وقوات الجيش الأردني. ونتائج تلك المواجهة جراح يعرفها الكثيرون. على أن من أوضح المواقف التي لم يوفَّق قادة فتح في اتخاذها موقفهم تجاه عدوان صدام حسين واحتلاله الكويت عام 1990م؛ ذلك أنهم لم يكتفوا بعدم إدانة ذلك العدوان، بل وقفوا - مع الأسف الشديد - إلى جانب المعتدي الظالم. وكان لذلك الموقف غير الموفَّق مرارة في نفوس مَنْ اعتُدي عليهم، ونفوس من وقفوا مع الحق. وفي كتابات هؤلاء وأولئك، نثراً وشعراً، ما يعبِّر عن تلك المرارة. ثم جاء مؤتمر مدريد، الذي كان من أعظم الخدمات التي قدمتها أمريكا للصهاينة - كما ذكر جيمس بيكر -، ورأى الجميع كم كان الدكتور عبدالشافي - رحمه الله - والدكتورة حنان عشراوي رمزَيْن لافتَيْن للأنظار، نجاحاً إعلامياً، وكم كان عدم التوفيق ملازماً للقيادة الفلسطينية بإجرائها مفاوضات أدت إلى اتفاقية أوسلو، التي كان كثير من بنودها، وبخاصة ما يتعلق بالناحية الأمنية، ضاراً بالقضية الفلسطينية، والتي أصبحت في ظلها الضفة الغربية، ولاسيما القدس، تهوَّد يوماً بعد آخر رغم المفاوضات العبثية أعواماً وأعواماً. هذا شيء مما أثار الشجن. والمتابعون للأحداث، فلسطينيين وغيرهم، يعلمون أشياء وأشياء، في الفم ماء كثير يحول دون شكواها.
أقرَّ الله عيون المخلصين من أمتنا بنصرها على أعدائها، ووفَّقهم إلى العمل؛ ليكونوا جديرين بالنصر.