في ثقافتنا الشرقية تعلمنا أن التدبير نصف المعيشة.. وفي عالم الاقتصاد نتحدث عن فائض.. متى كان الإنتاج يفوق الاستهلاك.. وفي نمط حياتنا نتحدث عن هوس حين يفيض الاستهلاك عما نحن بحاجة إليه.. وأما ابن خلدون فيقول في مقدمته (الترف مفسدة الأخلاق) ترى بماذا توحي لنا تلك الطوابير الممتدة مد البصر.. وهذه الحشود من البشر وهي تُسيرُ أرتالاً من عرباتٍ شرائية مكدسة بالمشتريات المتعددة.. والحاجيات المختلفة.في عصرنا الراهن أصبحت ظاهرة شراهة الاستهلاك،
والنهم الاستهلاكي هوساً عند البشر.. إنه هوس الاستهلاك الجنوني.. فنحن لم نعد مستهلكين فحسب، بل مسرفين إلى حد البطر. والبطر هو النفقة الإضافية غيرالمتناهية التي نضيفها إلى مساحات الترف في حياتنا لحظة فقدان التوازن وبُعد النظر أمام الاستجابة للمغريات التي تغرقنا في بريقها المزيف دون إرادتنا... فقط لإشباع رغبات اللحظة دون التفكير في العواقب المترتبة على ذلك مستقبلاً. لقد بتنا ننفق.. وننفق وبدون وعي على كماليات ترفيهية، وشكلية ابتداءً من غذائنا وملابسنا وأثاثنا وكل مايتعلق بحياتنا الشخصية وانتهاءً بحفلات التخرج التي نقيمها لأبنائنا.. وحفلات الأعراس والولائم الباذخة.. وحتى الأتراح لم تسلم فكان لها نصيبها ودخلت دائرة الضوء.. كل ذلك انغمس في بحيرة من الترف اسمها البطر وخضعت لعوامل المحاكاة، والانجراف نحو التقليد الأعمى.. والرغبة الملحة في الامتلاك للتباهي، والاستعراض. هكذا أصبح النمط الاستهلاكي عند مختلف شرائح المجتمع، وبمختلف فئاته العمرية. إذن ماهي المشكلة الحقيقية التي تكمن خلف ستار هوس الاستهلاك الجنوني.. والاندفاع نحو الشراء والاقتناء والتكديس والإنفاق دون حساب؟ وكيف يقع حب التسوق في قلب وعقل المتسوق أو المستهلك؟ وكيف لنا أن نحدد المجتمع الاستهلاكي؟ نحن في عصر وُصف بأنه عصر العولمة والسرعة، باتت السرعة تشكل ركيزة أساسية لا مفر منها في أكثر من مجال من مجالات حياتنا.. ونتيجة لتلك العولمة والانفتاح على المجتمعات الأخرى في عالمنا لم يعد مستحيلاً الحصول على أي شيءٍ مهما كان هذا الشيء.. وفي أي وقت دون الأخذ بعين الاعتبار عن مدى حاجتنا لذلك المطلب.. لقد أصبحنا نركض ونلهث دون وعي فقط لنصل إلى قمة الترف... بتنا نعيش في مجتمع مُغرَق في مبادئ هوس الشراء، والاقتناء غير المبرر.. صحيحٌ أنه هوسٌ له سحره إلا أن ذلك السحر الفاتن الأخاذ أوقف وعطل عقولنا عن التفكير، وولد غشاوة قاتمة على أعيننا وبصائرنا، فلم نعد نفرق أونميز بين ما هو ضروري أو غير ضروري.. بين ما نحتاج إليه فعلاً، وما لا نحتاج إليه.. وأكاد أجزم بأن الغالبية من أفراد المجتمع باتت تتباهى بثقافةٍ استحوذت على عقلها وتشربت منها ولا زالت.. ألا وهي ثقافة الاستهلاك.. ثقافة الإسراف، والتبذير الذي يصل إلى حد الترف، والبطر.. هذه الثقافة لم يتشربها المجتمع إلا من معين الإعلام، والدعاية والإعلان.. معين جعل منا مجتمعاً استهلاكياً شرهاًلغاية، تغريه منتجات ومعروضات ديباجتها أقرب ماتكون إلى لوحة لمسرحية ملونة ومؤطرة أُتقِنَت تفاصيلُ أدوارِها بكل دقة قبل اختراع المنتج، أو السلعة التي ستلبي نهم المستهلك.. أداته في ذلك الدعاية والإعلان من خلال وسائل الإعلام الذي وجد أنه أقصر، وأجمل الطرق لترسيخ القناعة داخل نفس وعقل المستهلك.. وماالتحالف بين شركات الإنتاج، وشركات الدعاية والإعلان إلا تحالف يهدف إلى معرفة سلوكيات وأنماط الاتجاهات التي تسيطرعلى ذهنية المستهلك فيسعى للتأثير على عقليته ومشاعره. لقد باتت الدعاية، والإعلان إيحاءات مُقَنِّعَة وملونة بألوان الخداع المزيف البراق.. فسلبت العقول، ونهبت الجيوب.. باتت هي من يقرر ويفرض ويجبرنا على الاختيار.. لم تعد لنا أحقية الاختيار في الشراء بمحض إرادتنا وقناعاتنا.. بل بإرادة وقناعة من يروج لمنتج، أو سلعة في وسائل الإعلام.. بعد تزيينها.. وتلميعها لتبدو غاية في الجمال أمام عين المستهلك.. لكنه جمال مزيف. إن تنامي النزعة الاستهلاكية عند البشر.. تعود أولاً وأخيراً إلى ما تقدمه وسائل الإعلام المختلفة من دعاية لترويج منتج، أو سلعة معينة لتصل بالتالي إلى يد المستهلك عبر مجموعة من الاستمالات، والتأثيرات.. منها ما هو عاطفي، ومنها ماهو واقع تحت مظلة الإغراء المبهر إلى حد الجذب الذي أثر في أنماط سلوكيات، وعادات المستهلك.. وبالتالي غير الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمعنا.. فظهرت مفاهيم مرتبطة بحب المظاهر.. والمحاكاة.. ولماذا لا أمتلك ما يمتلكه غيري؟ سيارة فارهة.. أثاث بيت أجدده بين الفينة والأخرى.. سفر وسياحة.. تسوق.. مبالغة إلى حد الهوس في الشراء والتملك بغض النظر عن كم سيكلف ذلك حتى لو احتاج الأمر إلى الاستدانة.. ولم لا؟ فالزمن زمن المظاهر، والوجاهة الاجتماعية. نحن لا نستطيع أن ننكر بأن ظاهرة التسوق هي ظاهرة اجتماعية.. واقتصادية لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال الاستغناء عنها.. بل هي بمثابة المعادلة لتحقيق التوازن بين العرض والطلب.. ولكن الأفكار الاقتصادية المختلفة التي باتت تتلاعب بعقل ومشاعر المستهلك من خلال كمائن الإغراء المتعددة.. كدعاية وإعلان ومراكز تسوق مصممة بطريقة أنيقة مغرية تجذب المستهلك والمشتري فتدفعه إلى المبالغة المتزايدة في الشراء، لأنه وقع في فخ الإغراء.. فأصبح فريسة سهلة الاصطياد.. ولهذا وفي ظل غياب ثقافة التسوق والاستهلاك ضاع فقه الأولياتن حياة الناس.. وبات المشهد يتكرر يوماً بعد يوم.