أذهلت صفة الحِلْم عند العرب عقل البروفيسور شارل بيلّلا أستاذ الدراسات الشرقية بجامعة السوربون حينما ألقى محاضرته عن «أسلوب الإنصاف في كتاب البخلاء للجاحظ» بكلية الآداب بجامعة الملك سعود (الرياض سابقاً)
وذلك في عام 1388هـ تقريباً.. ولم يكن منهج المحاضرة سوى منهج أدبي نقدي بحت تمثل فيه الجاحظ مجتمعه بسخرية لاذعة جميع طبقاته حتى نفسه فسخر منها بواقعية بحتة حينما نظر إلى صفحة الماء فرأى جحوظ عينيه ساخراً منهما ومن دمامة خلقته.. وإذا ما كان شارل بيلّلا يسمي ذلك المنهج إنصافاً فمن الممكن -أيضاً- تسميته في المسرح الذهبي لوحات مسرحية تصف لنا مجتمع الجاحظ يشتى طبقاته وفئاته.
ولست هنا في معرض التحليل النقدي لمحاضرة الأستاذ بيلّلا، لكنني أريد أن أعرض عنوان محاضرته على رأي الإسلام أو بالتحديد بما ورد في القرآن الكريم لكي أصل إلى معنى الإنصاف في القرآن الكريم. فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (24 سورة سبأ). فقضية أسلوب الإنصاف في القرآن الكريم هي التي تمنح الأدب معنى التنزه أو -بمعنى أدق- النزول إلى مستوى الخصم حتى، وإن كان الإنسان على حق، فإن احترام الآخر واجب وإن لم يكن على دين المرء أو ملته، فلا ينبغي أن يسخر منه أو يهينه، فهو -والحالة هذه- لا ينصفه، فليس هذا من باب الإنصاف.. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه.. إلخ، الحديث».. وليت الأستاذ بيلّلا اطلع على منهج القرآن الكريم في الإنصاف لامتنع -فيما أحسب عن إصدار حكمه على أسلوب الجاحظ بأنه منصف بقدر ما هو أسلوب مسرح ذهني لا يعدو أن يكون معبراً عن مجتمع عصره.
بيد أن العذر نلتمسه لمستشرق فرنسي غير مسلم مثل شار بيلّلا في إصدار هذا الحكم التعميمي. فلو كان هذا المستشرق مسلماً لعرف أن أسلوب الإنصاف في القرآن الكريم هو ركيزة أساسية من ركائز الحوار الهادف إلى «تأصيل الرؤية الإسلامية.. والجدل منهجاً من مناهج المعرفة، وطريقاً إلى إدراك الحق في ذاته، وأصالة القرآن الكريم في احترام الآخر، سواء أكان يتفق معه في العقيدة والدين أو الرؤية والإدراك حتى تكون عليه الحجة بالغة(1). قال تعالى {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (149 سورة الأنعام).
ولا يقف الأمر عند قضية نقدية أدبية اكتشفها مستشرق فرنسي كالأستاذ شارل بيلّلا في تراثنا الأدبي دون أن يتبصّر فيها في كتاب الله فله العذر في ذلك، ولكن الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك حينما نقف على قضية الإسقاط في مناهج المستشرقين المبشرين التي ناقشها الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه «الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين» وهو واحد من عدة كتب في هذا المجال. والإسقاطات كما يعرفها الدكتور أبو خليل هي «الحيل اللاشعورية التي تتلخص في أن ينسب الإنسان عيوبه ونقائصه ورغباته المستكرهة ومخاوفه المكبوتة التي لا يعترف بها إلى غيره من الناس.. تنزيهاً لنفسه، وتخففاً من الشعور بالنقص. فالإسقاط عملية نفسية نخلع بها تصوراتنا ورغباتنا على الآخرين، وهو الأمر الذي ينطبق على أوروبا والاستشراق والتبشير(2).
وفي المقابل تشير الدراسات الحديثة إلى جهود المستشرقين في نشر التراث العربي والإسلامي كما جاء في مؤلفات الدكتور علي بن إبراهيم النملة وزير العمل والشؤون الاجتماعية سابقاً وأستاذ المكتبات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مثل كتابه «المستشرقون ونشر التراث، وظاهرة الاستشراق (مناقشات المفهوم والارتباطات)، والاستشراق والدراسات الإسلامية، وإسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي.
إن ما دعاني إلى كتابة هذه التوطئة هو ما أتحفني به الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي عضو مجلس الشورى (سابقاً) بإهدائه القيم كتاب «محمد أسد هبة الإسلام لأوروبا) وهو أحد المستشرقين البولنديين الذين أسلموا وأقام في المملكة العربية السعودية وكان على علاقة بصقر الجزيرة جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله.
وقد جاء كتاب الدكتور الشبيلي -وهو عبارة عن محاضرة ألقاها في ندوة بمركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية- رصداً وثائقياً لحياة ذلك المفكر الإسلامي الكبير وإنتاجه الفكري، وقصة إسلامه وإيمانه بالله عز وجل القائل في محكم كتابه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (122 سورة الأنعام).
إن هذه الآية الكريمة تشرح معنى النور الذي يصيب كشحٌ منه بصيرة الإنسان أو بمعنى أدق قلبه إذا أراد به الله الخير فيشرحه، فمن قرأها -كما يقول الحافظ بن كثير- ليسأل الله الخير وليستعذ به من الشر.. ولما كان القلب هو مركز استقبال هذا النور فإنه المعول الرئيس في وسائل الإدراك في القرآن الكريم ألا وهي الحس والعقل والقلب واللب والفؤاد(3).. ولا شك أن القرآن لم يخاطب العقل وإنما خاطب الضمير والقلب ففيهما العلمية الإدراكية التي لا يتمتع بها العقل، وإلا لآمن -على سبيل المثال- العالم اللغوي اليهودي نوعم تشوميسكي صاحب كتاب «المعرفة اللغوية» وهو الذي قرأ القرآن الكريم وكتب أفضل كتاب عن اللغة العربية في القرن العشرين.
فالقضية بالنسبة لمحمد أسد الذي حاول الدخول في دائرة المثقفين البوهيميين الشهيرة في فيينا وبرلين في بداية العشرينيات(4)، وكانت حياته مليئة بالأحداث والكبوات والتناقضات(5)، كانت تبدو عميقة جداً لأنها تمثل يقظة وصحوة قلبية، فالقلب هو الذي يفقه، قال تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (179 سورة الأعراف).
ولكن كيف انتقل محمد أسد من التفكير في الدخول في دائرة الثقافة البوهيمية إلى الدخول في دائرة نور الله؟ إن مما يروى عنه أنه كان وزوجته يركبان القطار في ألمانيا فرأيا منظر الثمالى والسكارى وكانا قد فرغا من قراءة التوراة والإنجيل وبدآ بقراءة القرآن الكريم.. فما كان منه إلا أن قال لها: لقد رأيت هذا المنظر اليوم في القرآن.. إنه في قول الله {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (40-42 سورة عبس). هكذا استيقظت فطرة أسد وزوجته فأسلما على ذلك المنظر وتلك الصورة القرآنية الماثلة أمامهما.
لقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفطرة الإنسانية عند أسد وزوجته فقال عليه السلام «يولد الإنسان على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» ولم يقل: يسلّمانه، لأنه مسلم بالفطرة. ومن الحقائق العلمية، أن ولادة الطفل حينما يخرج من رحم أمه يخرج ورأسه نحو الأسفل ساجداً لله عز وجل القائل في محكم كتابه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (111) سورة طه). ولا شك أن العنو أشمل من السجود إذ ليس الخلق جميعاً من يسجد لله الخالق البارئ.
وإذا كان التوثيق المنهجي سمة بارزة في كتاب الدكتور الشبيلي، فإنه لم يغفل عن التوثيق الإعلامي حيث سجل حدثاً مهماً وهو عرض فيلم «الطريق إلى مكة» التوثيقي الذي تزامن مع إطلاق اسم محمد أسد على ميدان مبنى الأمم المتحدة في فيينا عام 2008م وهو من إخراج المخرج النمساوي جورج ميش، وقد حضر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي مع المفكر السعودي إبراهيم البليهي ندوة خاصة لعرض هذا الفيلم الذي استغرق تسعين دقيقة (ساعة ونصف) وحاز على عدد من الجوائز في مهرجان قواتز بالنمسا وأغادير بالمغرب(6).
***
الحاشية
(1) أ.د. بركات محمد مراد، منهج الجدل وآداب الحوار في الفكر الإسلامي، «المجلة العربية» ع: 97، محرم 1426هـ - فبراير 2005م، ص 8.
(2) لمزيد من التوسع: أنظر: د. محمد الشرقاوي، تأملات حول وسائل الإدراك في القرآن الكريم، ط1، عالم الكتب، الرياض 1402هـ، 1982م، ص 43 وغيرها.
(3) د. عبدالرحمن الشبيلي، محمد أسد «هبة الإسلام لأوروبا»، طب1، مط: سفير، الرياض، 1432هـ، 2011م، ص 57.
(4) السابق، ص 64.