أعترف أولاً أنَّ هذا العنوان متناقض، إذ كيف أطالب بتقنين تجاوز يُحاسب عليه الإنسان، وأسجل ثانياً تميز مجلس الشورى السعودي وقدرته في السنوات الأخيرة على اتخاذ التوصيات الأساسية الرامية إلى التصحيح والإصلاح، بعد المناقشة والمدارسة الواسعة لكثير من الأنظمة الحكومية المسنونة والمطبقة منذ زمن ليس بالقصير. كما أشيد ثالثاً بجهود الجهات المختصة الموكل لها والملقى عليها من قبل ولي الأمر المراقبة والمتابعة والرصد لمظاهر الفساد بدلالته الواسعة في مؤسسات الدولة المختلفة. وفي المقابل أشكر العاملين في الميدان الحريصين على تحقيق المصلحة العامة، المسابقين للزمن من أجل تحقيق الإنجاز وليصبح ما ينفذ على أرض الواقع رافداً هاماً ولبنة أساس من لبنات البناء التنموي في مناطق بلادنا المعطاء.. ولكن في ذات الوقت أعتقد أن بين هذه الجهات الثلاث (المُشرع والمنفذ والمراقب) فجوة كبيرة واختلاف حقيقي حيال المفاهيم والمنطلقات، إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة المتفق عليها ولو أدبياً بين الأطراف الثلاثة التي بها تتحقق المصلحة العامة ويحافظ على المال العام بشكل صحيح وبطريقة فعالة لا تُوقِع أحداً في الحرج ولا يمكن معها اتهام المنفذ على وجه الخصوص بالتلاعب والفساد.
أسأل المنفذ مثلاً.. ما هي العقبة التي تقف أمامك وأنت تسابق الزمن من أجل ترسية المشاريع قبل إقفال الميزانية.. ولماذا تفشل في إتمام المناقصات في الزمن المحدد.. لماذا تلجأ أحياناً إلى الشراء المباشر أو توزيع العملية بطريقة توقعك في دائرة المساءلة أو حتى الرفض من قبل المراقب المالي في الإدارة أو الوزارة.. سيل من الأسئلة التي لا تنتهي والجواب واحد عند الجميع.. (العقبة والسبب وراء كل هذه التجاوزات - التي ربما صنفت لدى الجهات الرقابية على أنها فساد - نظام المشتريات في المؤسسات الحكومية، فهو - والكلام للسلطات التنفيذية في الميدان التنموي - في صورته الحالية قد يضطر البعض من الشرفاء الأمناء الطموحين والراغبين في الإنجاز الحريصين على عدم عودة المخصصات المالية إلى وزارة المالية في نهاية الميزانية السنوية.. قد يضطرهم هذا الحرص للتحايل والتجاوز الذي يأخذ صوراً عدة لا يقرها النظام ويؤخذ عليها المسئول.. ولذا فهو – أي التنفيذي - يلقي اللوم على الجهات التشريعية التي يقع على عاتقها مراجعة الأنظمة والتجديد فيها، كما أنه يطالب الجهات الرقابية بوجوب التفريق بين أنواع التجاوزات وعدم وصمها جميعاً بصفة الفساد، إذ إن من بين هذه التجاوزات ما يمكن اعتباره قمة الصلاح وعنوان الإصلاح، وعبارته الدائمة «إذا ما دخل ها الجيب شيء فلن أخاف، فأنا مجتهد، وتحقيق المصلحة العامة المتمثلة في مصلحة المؤسسة التي أقف على رأس هرمها الإداري هو الهدف الذي أنظر إليه واضعه بين عيني دائماً، وهذا هو ما وجه وأمر به خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وليس من راء كمن سمع، ولو تمسكت بحرفية نص النظام دون روحه فلن أنجز شيئاً وستقفل البنود المالية وتضيع الفرصة على إدارتي أو وزارتي أو جامعتي أو... وحينها أكون سبباً في تفويت الاستغلال الأمثل للموارد المالية على مجتمع كامل نتيجة خوفي على الكرسي وحرصي على أن أكون بعيداً عن المساءلة!!».
إن ما أسطره في هذا المقال لا يعني أنني في مقام إعلان البراءة لجميع المنفذين في ميداننا التنموي أو أنني اعتبر كل تجاوز للأنظمة يجب أن يعاد النظر فيه على أنه في النهاية يحقق المصلحة العامة، ولكنني أشير فقط إلى أن هناك من الأمناء من يريدون أن يقدموا من خلال مراكزهم القيادية خدمة وطنية فاعلة ولكنهم يتراجعون في اللحظة الأخيرة خوفاً من أن يُتهموا أو يُوصموا بما يتنافى مع أخلاقياتهم الإسلامية وسلوكهم الوطني المعروف، والنتيجة تأخر المشاريع وضياع الفرص وتقليل الميزانيات وإهدار المصالح العامة جراء المبالغة في الحذر.. طبعاً السؤال الذي يطرح نفسه هنا.. والحل؟؟ والجواب في نظري تقنين التجاوزات ودراسة كل حالة على حدة بعيداً عن التأطير المسبق والاتهام الجاهز، فالنقل من بند إلى آخر مثلاً أو توزيع العملية، أو التأمين المباشر أو عروض الأسعار في مناطق لا يوجد بها سوى مورد واحد... قد يكون في ظرف ما ضرورة، تدرس من قبل الجهات الرقابية دراسة متأنية وتعرف الأسباب ومن ثم تجاز هذه التجاوزات أو يوصى بتغير النظام وترفع هذه التوصيات المبنية على حالات واقعية إلى الجهات المختصة واللجان المنتظمة في مجلس الشورى المناط بها النظر في الأنظمة ودراستها وإعادة صياغتها من جديد.. وإلى لقاء والسلام.