قروناً طويلة من العزلة الحضارية عاشها ابن هذه الجزيرة، منذ أن كانت الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية في عهد الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد أن نقلها عام 41هـ من المدينة العاصمة الأولى لدولة الإسلام،

ثم بعد الكوفة دمشق وبغداد وقاهرة الفاطميين وقرطبة الأموية من جديد في الأندلس. لقد غيب التاريخ إنسان هذه الجزيرة عن الحياة ألف عام أو تزيد، اتخذ الخلفاء والسلاطين من فروسية وشهامة وجهادية واستبسال قبائل الجزيرة خزاناً بشرياً ووقوداً لا ينضب للفتوح وتوسع ممالك الخلافة؛ فوصلوا إلى بلاد ما وراء النهر شرقاً، أي بلاد الأفغان وما حولها وآخر حدود شبه جزيرة إيبريا غرباً «إسبانيا» كلها بما في ذلك البرتغال، وما بعد جبال البرانس شمالاً وما بعدها من الأراضي الفرنسية، أي إمارة «أندورة» وإقليم ليون إلى حدود صخرة الوادي العصية! لقد اندفعت قبائل الجزيرة مستجيبة لداعي الجهاد ومنتشية بتوسع الدولة الإسلامية ودخول أجناس مختلفة من البشر في الإسلام؛ فانصهرت وتفاعلت وتداخلت وتناصت مع مختلف الثقافات العالمية والطبائع والعادات، وكونت من كل ذلك التناص الثقافي والروحي والاجتماعي ما نسميه الآن بـ»الحضارة الإسلامية» التي اندمجت فيها كل الأعراق الفارسية والهندية والرومية والقبطية والبربرية والقوطية مع القبائل القحطانية الجنوبية والعدنانية الشمالية، ومع قبائل قيس وتميم وهوازن وخزاعة وثقيف وسواها!

كادت تذوب أو ذابت الحدود الفاصلة بين القبيلة والمولدين لولا بعض الاستثناءات التاريخية الشاذة، ولكن بقيت الجزيرة العربية في عزلة بعيدة عن مراكز النفوذ والسلطان واتخاذ القرار، وانصبت خيرات الفتوح وعبقريات العلوم وثمار العقول وحصيلة الخبرات الإنسانية في عواصم الخلافة، بينما بقيت الجزيرة مفرغة ومعزولة أكثر من ألف عام!

وحين يسَّر الله وأراد لأبناء جزيرة العرب الخير هيأ الأمر لرجل فذ يملك إرادة ورؤية، وينطوي على حسرة من المنزلة الوضيعة التي يعيش فيها أبناء الجزيرة العربية، وحدد هدفه الشريف، وأبان عن غايته السامية، وبدأ يعمل لإنجاز مشروع «دولة» ولأول مرة في تاريخ هذه الأرض بعد عام 41هـ حين هاجرت عاصمة الدولة الإسلامية الأولى إلى الكوفة. نهض الرجل الكبير «محمد بن سعود» بمشروعه الطموح متكلاً على الله، ووفقه الله إلى تحقيق الغاية السامية، ومكنه مما اجتهد من أجله؛ فقامت دولة، ثم ووجهت بالمكائد من محمد علي باشا وسيده التركي، ولكنها نهضت من جديد من كبوتها، ثم واجهت بعض العثرات، ولكنها تفوقت على كل المحبطات بإرادة الله، ونهضت بعزيمة أشد وأقوى على يد مؤسس الدولة السعودية الثالثة عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وكل تلك النجاحات والإخفاقات التي مر بها نشوء «دولة» ليست إلا محاولات مستميتة في كل المراحل التي مرت بها للخروج من الحصار التاريخي الحضاري الذي ضُرب على أبناء هذه الجزيرة، ولمنح مهد العروبة والإسلام ما تستحقه من ريادة وتفوق؛ بما لها من سبق في التنوير، ومن ريادة في التأصيل، ومن أثر باق في الإبداع والإضافة الخلاقة شعراً ونثراً وقيماً وفروسية وأخلاقاً.

لكن حصار العزلة الطويل الذي نيف على ألف عام ترك آثاره في إنسان هذه الجزيرة كالندبة كامناً في النفوس وساكناً في العقول بحكم الجغرافيا القاسية والسياسة الخلافية المتعسفة والبُعد عن مراكز النور والتأثير الحضاري، وما ميل أطياف من المجتمع لدينا الآن ومعارضتهم كل جديد، وحبهم العزلة، وخوفهم من الغريب، إلا بعض أثر ممتد من تلك الحقب الطويلة من العزلة! وإنك لترى الإبل في البادية تجفل من كل ما هو مستنكر لديها، حتى من أصوات السيارات، حتى إذا ألفت ذلك واستأنست أو تمدنت (أي ألفت المدينة) ما عاد شيء من ذلك يجفلها أو يثير في نفوسها الفزع! وهو الإنسان نفسه؛ لأنه ابن بيئته، يتأثر بتكوينها ويستجيب لدواعيها، وينفر من كل غريب لم يتعود عليه، وغلب هذا الطبع بحكم العزلة على كثيرين، لم يقو التعليم بعد ولم تستطع الخلطة ولا الإعلام الحديث - وكل ذلك طارئ وجديد لا يزيد على سبعين عاماً - أن يغير كثيراً مما وقر عميقاً في النفوس من طبائع تلك العزلة الطويلة!

وما نراه اليوم من تمترس حول الذات، ووجل من الطارئ، وخوف من الآخر، وادعاء عصمة وكمال وتفوق وتطهر يخشى عليها من أن يدنسها الغريب والمنكر والجديد وغير المألوف، إلا استعادة مكرورة لا إرادية لصور من حيوات العزلة الطويلة التي غُيّب فيها ابن الجزيرة عن العالم، وانقطعت صلته وتواصله حتى سكنه التخوف من كل جديد لم يألفه!

إن «البارتشن» الذي يسور البيوت، ويقسم المطاعم والمقاهي ليس إلا صورة واحدة من صور ذلك النسيان التاريخي، وبقية ساكنة في النفس، تدفع إلى حماية الذات والتمترس حولها وإخفائها عن الأنظار وضرب حجاب ثقيل حولها؛ لئلا يكشفها الآخر أياً كان!

وليس التبرقع إلا صورة واحدة من صور التخفي والعزلة وحماية الذات والخوف من الاستلاب واقتحام الممالك الخاصة!

ولذا لا نعجب حين نقرأ أن السوق السعودية ربما تكون هي الوحيدة التي تستهلك وتُصنع لها العوازل النسائية، وأعني بها الفواصل من الخشب أو البلاستيك أو ما شابهها، تلك التي توضع فاصلة بين الرجال والنساء! والشرح هنا أو الإيضاح لما لا يجب شرحه أو إيضاحه؛ كي لا يتبادر إلى الذهن معنى آخر لا أريده.

نستهلك نحن هذه العوازل في كل مكان نسكنه أو نزوره أو نجلس فيه ولو دقائق معدودة للأكل أو للشرب، في المطاعم وفي المقاهي، وحتى في بيوتنا، فثمة سواتر عالية مهيبة نقيمها على أسوار منازلنا العالية، تناطح السحاب ولا تحجب العيون المتلصصة فحسب، بل تحجب الشمس والهواء والحياة، سواتر في كل مكان، وعزلة رهيبة مرعبة بين الناس، وكانتونات صغيرة متجاورة ولكنها متنافرة، أو هكذا يبدو الأمر، عزلة اختيارية وعالم صغير تعيش فيه أسرنا ولا تريد لأحد كائناً من كان أن يقتحمه ولو بنظرة أو سؤال أو بتواصل إنساني طبيعي سوي! نذهب إلى المطعم أو المقهى فنقيم عوازل وسواتر المنزل العالية نفسها وكأننا ما رحنا ولاجينا، أو كأننا غيّرنا فقط الطعام أو الشراب ليس إلا! فما جدوى التغيير إذن؟! والمؤكد أن حالة من عدم التوازن أو الارتباك تخيم على كثير من ممارساتنا الاجتماعية؛ بدليل أن كثيراً مما نلتزم به وقد نراه مقدساً يتساقط مرحلة مرحلة مع بداية التحليق في الجو، ثم يعود ثانية مع قرب النزول إلى مطاراتنا، عودة من جديد إلى ارتداء العادة رغم تجربة الفكاك منها في الأيام السياحية!

البارتشن رفيق رقيق وقاس أيضاً؛ فهو معنا في ندواتنا وفي حفلاتنا وفي مهرجاناتنا.

على حين يكشف الرجل الطبيب أدق تفاصيل المرأة في كل مستشفياتنا دون تذمر يُذكر أو احتجاج أو نفور؟! بينما لا يبيح العرف مكاناً مفتوحاً ومكشوفاً يجمع بين الرجل والمرأة باحتشام كامل وعلى مرأى من العيون عبر الشاشات في المحافل الرسمية كالمهرجانات والمنتديات الأدبية والثقافية وغيرها؟!

ألسنا بعد نعيش حالة من عدم التوازن؟ وحالة من فوضى اضطراب الشخصية؟ وحالة فريدة في العالم لا يشبهها إلا نحن؟! تدخل المرأة السعودية على البائع الأجنبي من كل الجنسيات وهو في كامل زينته المقصودة، ويعرض عليها بتميع أصناف وأشكال ملابسها الداخلية فلا نرى في هذا بأساً بل إن الخطيئة التي لا تُغتفر أن تحل امرأة مكان ذلك البائع الأجنبي لتبيع بنات جنسها؛ بحجة أن هذا مدعاة إلى الاختلاط! ويمنع العرف السائد الهش المرأة السعودية من قيادة سيارتها بحجة ما يمكن أن يقود إليه هذا الأمر من مفاسد، بينما لا يرى هذا العرف السائد خطيئة ولا نكراً ولا فحشاً ولا ذنباً يمكن أن يرتكب في خلوة امرأة قد تكون شابة مع سائق قد يكون شاباً لا خلاق ولا دين ولا تربية تردعه في محيط متر في متر مربع من السيارة؟! أين هو الاختلاط والفساد؟ هل هو في الأمكنة العامة المفتوحة كالندوات والمهرجانات وقاعات المحاضرات ومجلس الشورى والمطاعم والمقاهي أم مع البائع المائع والسائق الفاسد أو الطبيب الذي لا يلتزم بأخلاق المهنة؟!

نحن أشبه ما نكون بمن يتعلم الفطام؛ فضرورة النشأة وبلوغ السن يستدعيان فطام الطفل من حليب أمه، ولكنه متشبث بما اعتاد عليه ولا يريد نزع شفتيه من صدر أمه الحنون الذي نشأ عليه! وهكذا نحن؛ نشأنا على عادات ننازع أنفسنا بمشقة لنتخلص منها فلا نستطيع، ومن يريد ويفعل ذلك لا يبدي رأيه خوفاً وقلقاً ومراعاة لمصالح ولأحاديث الناس، ومن يستطيع الفعل فقد لا يفعله هنا بل هناك؛ لأنه سيكون مع نفسه وبقناعاته، وهو هنا متلبس متسربل بما يريده الناس من حوله!

قد نسمي سلوكاً من هذا النوع «عادة»، ولكنها عادة خلقتها العزلة التاريخية القديمة، وليس كل موروث في كل الحالات حسناً، فما يمنع من التواصل الإنساني السوي وفق قيم الدين والخلق الفاضل لا شك أنه مرذول ومعيق، وليس «البارتشن» والسور العالي على المنزل إلا صورة مكشوفة لما بني في النفوس من سواتر وحواجب من المخاوف والانطواء والشك.

ولن ينقضي العجب ونحن نرى هذه الأسوار العالية تتهدم مع الزمن واحداً بعد الآخر، وفي كل مرحلة من سقوط الأسوار والبارتشنات تنكشف دواخلنا ونكون أقدر وأقرب وأنقى وأجمل وأكثر لطفاً ورقة وحميمية من زمن سواتر الذات وحصونها الرهيبة!