Sunday  09/10/2011/2011 Issue 14255

الأحد 11 ذو القعدة 1432  العدد  14255

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لم يشعر ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، في حوار نشرته (الشرق الأوسط) قبل أيام، بكثير من الحرج وهو يعترف أن الأجهزة الأمريكية مارست التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين في خضم ما سمى (الحرب على الإرهاب)، بل اعتبر الأمر (ضرورة وطنية) تتوافق مع (المواثيق الدولية)، وهي كذبة لا تنسجم مع السرية الشديدة التي أحيطت بها تلك العمليات (القذرة) حسب التسمية الغربية،

بل تتناقض أيضاً مع الغضب الجمهوري الشرس الذي تلقاه أوباما جراء عزمه مقاضاة الضالعين في هذه القضايا.

وفي هذا الإطار، لن تكون وثائق المخابرات الليبية المسربة مؤخراً، والتي كشفت عن تعاون نظام القذافي مع المخابرات الأمريكية والبريطانية مفاجأة صاعقة، فالشعب العربي أصبح يدرك أن هذه الأنظمة التي تتنافس في (سباق الممانعة) إعلامياً فقط، لا تلبث أن تنهار عند الحاجز الأول الذي يعترض بقاءها، وهي مستعدة لرهن أوطانها مقابل التربع على كرسي الزعامة في بلاد تشبه الأقبية!.

وإذا كان القذافي، الذي أفزعه السقوط المريع لبغداد، أعلن في عام 2003م، انسحابه من هذا السباق ليفتح ليبيا أمام مفتشي الطاقة النووية، دون أن يتخلى تماماً عن الجعجعة الفارغة، فإن النظام السوري، أبرز (الممانعين)، لا يزال - أمام شعبه على الأقل - يتمسك بخطاب المقاومة والصمود والتصدي، دون أن يشعر بالتناقض بين ضجيجه الكلامي وهدوء أرض المحتلة، ولا بين العداء الشرس لأمريكا والتعاون مع أجهزة استخباراتها، التعاون الذي أشار إليه الرئيس السوري في إحدى مقابلاته مع (نيويورك تايمز) 2003م، فهو حين يمن على الأمريكيين (تعاونه الوثيق مع (سي أي إيه)، كان يورط إدارة بوش فقي تأكيد ما تداولته وسائل الإعلام فيما بعد عن (فضيحة السجون السرية)! وفي خضم فخره بإحباط 7 عمليات انتحارية في العراق - كما يروي في المقابلة نفسها -ينسى الرئيس لهجته الحادة التي طبعت معارضته الحرب على جاره الشقيق، فيضيف أنه لا يعارض الوجود الأمريكي بحد ذاته، بل لا يعتبر الولايات المتحدة خصماً.

وربما كان سقوط بغداد مشهداً مفزعاً دفع الزعيمين إلى الكف حتى عن الثرثة، فقد كان واضحاً أن (بوش) لا يحب المزاح، ولا تروقه اللهجة العدائية التي لو كانت صالحة فقط للاستهلاك المحلي، فهو جاد جداً حين يقول: (من ليس معنا فهو ضدنا).

وقد يبدو غريباً أن الدول التي تصدح بحقوق الإنسان ويندد قادتها بانتهاك الحريات والممارسات الوحشية في سجون العالم الثالث، هي الدول نفسها التي تتواطأ مع المخابرات العربية على خنق المواطنين وتعذيبهم لانتزاع اعترافات والحصول على أدلة تقود إلى متهمين آخرين.

واستحضار مثال سريع من أجواء الحرب العالمية الثانية سيؤكد أن هذا التغافل عن حقوق الإنسان ليس وليد الحكومات الغريبة الحالية، بل هو سلوك قديم، فـ(ونستون تشرشل) مثلاً كان يعلم أن (ستالين) أمر بقتل 20 ألف ضابط بولندي ودفنهم في غابة كاتين، لكن الداهية البريطاني أوعز إلى موظفيه في وزارة الخارجية بكتمان الموضوع عن الصحافة حتى لا تتضرر علاقته بحليفه في الحرب، وكي يتجنب غضب الشعب البريطاني الذي لن يستلطف التحالف مع سفاح لا يختلف كثيراً عن العدو الأكبر هتلر.

وإذا كان الحس الأخلاقي لدى تشرشل دفعه إلى أضعف الإيمان فأنكر على ستالين فعلته الشنعاء بلسانه وقلبه، فإن صديقه المقرب (روزفلت) لم يكن يرى في الأمر أكثر من حادثة عابرة لا تستدعي النقاش، لكنه أيضاً تكتم عليها أمام ناخبيه، والدليل أن صورة الاتحاد السوفيتي لدى الأمريكيين لم تكن بهذه البشاعة إلا حين بدأت الصحافة الأمريكية عام 1947م فتح الملفات الدموية والسوداء للزعماء السوفييت تحسباً من غزو فكري أحمر بدأ يطرق أبوابهم.

ومنذ ذلك الوقت وحتى أحداث أيلول سبتمبر، لم تهدأ وتيرة التنسيق بين أجهزة (الممانعة) وأجهزة (الإمبريالية)، لكن هجمات سبتمبر المزعومة ألجأت الأمريكيين إلى رفع مستوى التعاون إلى درجة جعلت المخابرات السورية تفتح خزائنها القديمة منذ العام 1979م ليطلع عليها زملاؤهم في (سي أي إيه) بحثاً عن معلومات (الإرهابيين) المفترضين، وكان الأمريكيون في المقابل يساعدون الممانعين في تتبع أعداء (الثورة التقدمية) وملاحقتهم وتسليمهم لفرع فلسطين الذي يتمتع بأسلوب مدهش في هداية المتهمين إلى صراطه الأعوج، وبالمقابل فهذا الفرع الشهير يستنطق الحجر بطريقة مبتكرة لا يمكن للأمريكيين أن يطبقوها على أرضهم، لذلك يكفيهم السوريون عناءها وتأتيهم المعلومات على طبق من طاعة. من ذلك أن بعض التسريبات تشير إلى احتجاز أبي مصعب السوري في هذا الفرع بعد أن اعتقله الأمريكيون في باكستان ونقوله إلى دمش، وأبو مصعب ليس حالة فريدة في هذا الاتجاه، فالليبي عبد الحكيم بلحاج كان ضحية لعملية مماثلة نقله فيها الأمريكيون من تايلند إلى سجون القذافي قبل سنوات لينال نصيبه من (التعذيب الوطني)!

ولا خلاف على أن التعاون بين الأجهزة الأمنية في مختلف دول العالم لمكافحة الجريمة والإرهاب، مطلب مشروع، إلا أن هذا التعاون لا يمر تحت مظلة الانتربول التي قد تربك (فنون التحقيق السورية) بشروطها (التعجيزية) عن ضمان حقوق المتهمين وعدم تعرضهم للأذى، وإجراءات أخرى يرى (الممانعون) أنها تعيق تحقيق العدالة!

من هنا لا يفكر الأمريكيون بالجانب الحقوقي والإنساني في علاقتهم بهذه الدول (المارقة)، ولا تعنيهم معاناة الشعوب ما دامت مصالحهم تتماشى مع الأنظمة المستبدة، وتلك حقيقة لا جديد فيها، لذلك يغدو التفسير المقنع لتخاذل الولايات المتحدة عن اتخاذ تدابير أكثر قسوة بحق النظام السوري هذه الأيام، هو الخوف من انهيار هذه العلاقة الحيوية والإستراتيجية مع مجيء حكومة حرة وديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، إلى جانب الفزع من احتمال عودة حالة التسيب إلى الحدود العراقية السورية، لا سيما أن الأمريكيين عقدوا اجتماعاً في فبراير الماضي (قبل الثورة بشهر واحد فقط) مع الرئيس الأمريكي بحضور اللواء علي مملوك، مدير إدارة المخابرات، واتفق فيه الجانبان على تأمين الحدود ومنع المقاتلين الأجانب من استهداف الأمن العراقي بعد انسحاب القوات الأمريكية أواخر العام الحالي.

ورغم أن موقع ويكيليكس، الذي سرب وثيقة تشير إلى هذا الاجتماع، لم يتحفنا بما ينبئ عن تعاون خفي بين الجانبين بعد انطلاق الثورة السورية، وإن كان مستبعداً أن تكون الولايات المتحدة (ودول أخرى) متورطة في دعم سري للأسد، لكن تغاضيها المجحف عن الجرائم الفظيعة التي ترتكب يومياً يقود إلى تساؤل عن مصير قانون (محاسبة سورية)، ويختبر صدق العداء الظاهري بين (الإمبريالية) و (الممانعة). فرغم ما تبديه من حرص في وسائل الإعلام على المدنيين العزل الذين يتعرضون لأبشع أنواع القمع والقتل والترهيب، ولم تذهب جهود الولايات المتحدة لإيقاف العنف أبعد من عقوبات شكلية تجرح ولا تقتل، كما أن التذرع بمعارضة الصين وروسيا ليس إلا أكذوبة أخرى تفضحها أمثلة قريبة لم يكترث فيها الغرب لمواقف هاتين الدولتين حين تتعارض مع أجندة جادة وحازمة.

 

أنظمة عربية للأعمال القذرة!
سليمان الأسعد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة