لم أكن أتصوّر أن يكون لتلك الزرافة المحجبة دور في تحديد مصير تلك الفتاة الساذجة التي هرعت إلى اتخاذ قرارها بناءً على مشورة (الزرافة)، ولا أحد يلومها في ذلك، فلها حق اختيار طريقها بما يتناسب مع فهمها للأمور، وهذه حرية شخصية لا يمكن أن يتدخّل فيها أحد؛ ولكن ماذا لو كانت الزرافة غير محجَّبة أو متبرِّجة هل سيؤثِّر ذلك على سير الأمور ؟ وهل ستتم إعادة تهيئة الموضوع بأكمله ؟!
ما ذكرته لم يكن مقطعاً من رواية رمزية أو هذياناً، ولكنه واقع مُعاشٌ حيٌّ دارت أحداثه على شاشة قناة الـ(إم بي سي) التي خصصت برنامجاً تستقبل فيه (زهايمر) المتصلين، أقصد أحلامهم ورؤاهم العصرية المتأثّرة بذلك الكم الهائل من العولمة الرقمية الممزوجة بآلاف التفاصيل في حياتهم البسيطة، فبالرغم من ظنيّة مسألة تفسير الرؤى والأحلام التي تعتمد بشكل أساس على التكهُّنات و(السواليف)، إلاّ أنّ رغبة القناة في حشد أكبر قدر من المشاهدين تفوق أي قناعة كانت، فمن قدِّر له أن يشاهد (الشيخ) - كما يسمِّي نفسه - فسيصيبه الذهول! فجميع تفسيراته تدور حول قطبين رئيسين إمّا الخطوبة والزواج أو العين والحسد؛ والناس منجرفون خلف هذين الأمرين بشكل جنوني، وهذا الرجل وغيره من (المخرّفين) يُذْكون هذه الخصال في نفوس البشر ويربطونها بالوهم، ويعلّقون مصائرهم بشيء مجهول لا وجود له إلاّ في خيالهم الخصب.
المعضلة الكبرى في هذا الشأن تكمن في جانبين؛ الأول: أنّ من يفسِّر هذه الأحلام يظهر للناس بصفته (شيخاً) أي عالم دين، ولهذا يُنظر إليه بثقة، كما هو العالم الشرعي الذي يتحدث عن يقين ووضوح، وهذا ما يجبر البشر على تصديقهم، ولهذا يأخذ حديثهم صفة القطعية لا الظّنية والاحتمال.
الأمر الآخر أنّ جزءاً ليس باليسير ممّن يسعون خلف تفسير الرؤى، هم من المصابين بأمراض نفسية، أو على أقل تقدير لديهم قابلية كبيرة للإصابة بها، وستكون هذه الأحلام التي يشاهدونها يومياً أثناء نومهم، هي المحرِّك الرئيس لجميع شؤونهم الحياتية، فلا يمكن أن يتخذ أيٌّ منهم قراراً إلاّ بعد تتبُّع دقيق لتلك الرؤى (طامحة) التي سيكون (الشيخ) لها بالمرصاد.
حاولت أن أفهم سبب إصرار هؤلاء المفسِّرين على آرائهم التي يعدّون فيها هذا الفن علماً لا يكتسب بالتعليم بل بالإلهام؛ لذا فهو في نظرهم أشبه ما يكون بالموهبة (الخارقة) أو الحاسة السادسة، بل إنّ بعضهم يعدّه وَحْياً ! هذا الاختلاف والتشتُّت دليل على التخبُّط الكبير الذي تعيشه هذه الفئة من المشعوذين، الذين يريدون إقناع الناس بالخرافة.
في نظري لا فرق بين المشعوذين ومفسِّري الأحلام، فجميعهم يبيعون الوهم على الناس، وهذا البيع لا يمكن أن يكون مجاناًَ، فهو في غالب الأحيان مدفوع القيمة إمّا بخط الـ(700) الذي خصصه أشهر المفسرين خلال العقد الماضي للمتصلين المساكين، الذي سيضطرون لدفع مبلغ (7) ريالات للدقيقة لتفسير هذا المنام وذاك، ولكن هذه الموضة قد اختفت الآن مع وجود قنوات فضائية خاصة تستقبل الاتصالات ورسائل (SMS) دون أي تردُّد، وهذا بالتأكيد ينافي سمو هدفهم الذي يدّعونه.
في حالة النوم يخف مستوى الإدراك - ما يسمّى بـ(الأنا) - لدى الفرد ويكاد يتلاشى ليكون المجال مفتوحاً أمام مختلف الغرائز والدوافع الفطرية المختزنة في العقل الباطن (الهو، الهي) المكوّن (البيولوجي) الحيوي من الشخصية، وهذا يُحدث - كما يشير العلماء - نوعاً من التوازن النفسي لدى الإنسان، فكثير من الأمور التي لا يستطيع المرء أن يفعلها في حياته الواقعية لأسباب اجتماعية وأخلاقية، يمكن أن يقوم بها (ذهنياً) في منامه، لذا فمسألة تفسير الأحلام وربطها بالواقع مسألة معقّدة وفي كثير من الأحيان لا يكون لها أساس منطقي، وهذا ينطبق على جميع البشر بلا استثناء سوى الأنبياء عليهم السلام الذين لا تكون رؤاهم إلاّ حقاً، لذا فهي دعوة صادقة لمفسِّري الأحلام أن يوقفوا جناياتهم في حياة البشر.
Alfaisal411@hotmail.com