قد يتفق اثنان على أمر ما وقد يختلفان، ولا ريب أن درجة الاتفاق والاختلاف تتفاوت قوة وضعفاً حدة وشدة حسب طبيعة الأمر وأهميته وعلاقته بالمعني به، إلا المال الكل متفق على حبه وبدرجة عالية جداً عند كل بني البشر على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، قال تعالى:
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (20) سورة الفجر.
فمن طبائع البشر المعروفة المستقرة فيهم على اختلاف الزمان والمكان، أنهم يحبون جمع المال وتنميته بدرجة شديدة لا يوازيها في الشدة والحرص أي أمر آخر، لهذا لا يستكثر على هذا أو ذلك ولا يستغرب عندما يظهر شيئاً من المبالغة في الجهد من أجل جمع المال والاستئثار به وجمعه بما يمكن من الأساليب والطرق المتاحة حتى وإن كانت عند البعض مخالفة للشرع والقانون.
بحسب هذا الطبع البشري فإن جمع المال والمبالغة فيه يُعد أمراً متفهماً، ولكن ماذا بعد جمع المال؟ بطبيعة الحال، كل صاحب مال يعاني عند إنفاقه وصرفه من حالة صراع نفسي حاد، فهو بين إقدام وإحجام، يعطي أو يمنع، وإذا همَّ بالعطاء، كم يعطي؟، ومن يعطي؟، ولماذا يعطي؟ هنا تتدخل الوساوس والهواجس، وتتداخل المشاعر وتضطرب، بين رغبة الجمع والكنز، وقيمة الإنفاق الواجب والتطوعي، البعض تسيطر عليه حالة من الخوف والهلع إن أنفق المال، ولهذا تجده يبحث في المسوغات التي تصرفه وتزين له المحافظة على إبقاء المال في المحافظ والحسابات، وهؤلاء مثلهم كمثل عيسى الذي يقول عنه ابن الرومي:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
إن هؤلاء في حال يُرثى لها، فحب المال سيطر على مشاعرهم، وأعمى بصائرهم، وبلغ بهم التقتير حد الشح على النفس فضلاً عن الشح على الأهل والولد، ويتبين هذا وبوضوح في مظاهرهم الرثة، وحرمان ذويهم الأقربين من التمتع حتى بالحدود الدنيا من ضرورات الحياة، فكل الكماليات عندهم لا ضرورة لها، وتمخض عن هذا الحرمان إحباطات، بل أضحى أبناء هؤلاء المحرومين المقترين على أنفسهم مهيئين تماماً للتعويض عن شعورهم بالحرمان إلى ممارسة أي فعل حتى وإن كان خطأ للحصول على ما يُعد من أبسط حقوقهم.
في إحدى الجولات في معارض التوعية بمخاطر المخدرات، استوقفتني وشدت انتباهي كما غيري من الزائرين صورة شاب في العقد الثالث من عمره، حيث يذكر المعلق على الصورة، أن هذا الشاب كان يحفظ من القرآن حوالي العشرين جزءاً، وكان والده من الأثرياء جداً المقترين على أنفسهم وأهلهم، كان هذا الشاب يعاني من الحرمان والقهر، توفي والده الثري، ورث الشاب عن والده مالاً كثيراً، ولطغيان الشعور بالحرمان فتح الشاب أبواب كل الملذات على مصراعيها، وتجمع حوله فئات من الشباب لم يكن يعرفهم، كان القاسم المشترك بينهم الاستمتاع بكل ممكن من الملذات، وكان فريسة سهلة لشهوات الحرمان، وضعف التحصين، انكب مع رفقاء الشر يتناول المسكرات، ثم المخدرات، حتى وصل إلى حد الإدمان، فلم يعد يتحكم في إرادته، أنفق الكثير من المال على تناول المخدرات حتى غرق إلى أذنيه في أتونها، وكانت النهاية الحتمية، وجد ميتاً منكباً على وجهه عرياناً من كل شيء، من الثياب من المال من الماضي الجميل الذي خطا أولى خطواته في حفظ القرآن وتجويده.
هذه مآلات الشح والتقتير، والحب الأعمى لجمع المال، حرمان في الدنيا من التمتع الحلال بما أحله الله وأمر به، وحتماً سوف يؤول المال الذي شح به صاحبه على نفسه فلم يستفد منه في الدنيا ولا في الآخرة، إلى من يستأثر به، ولا يحسن توظيفه، يبذره وينفقه، ولكن في المجال الخطأ، والاتجاه الخطأ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر).
ولهذا في مقابل المقتر الشحيح هناك الكثير من الفضلاء الذين أنعم الله عليهم، بسطوا أيديهم ينفقون المال على النفس والولد، على الأهل والأقربين، يتصدقون ويزكون، ويساعدون ذوي الحاجة، ويهبون ويمنحون، فهنيئاً للمنفق ماله في أوجه الخير والفضل، فهذا هو مال المنفق، وغيره للوارث، وعلى العاقل أن يختار.
ab.moa@hotmail.com