قد يرى بعضنا أن الوطن هو ضمان حقوق وحرية وكرامة وقد يراه البعض أرضا وسماء وهواء وناسا، وأرى أن كلا الرأيين صحيح باعتبار أن الرأي الأول فكري والرأي الآخر وجداني، ومن الجدلية تفكيك أو فصل العقل عن القلب ولكن من الصواب فصل الفكر عن العاطفة.
ومن هنا تأتي المسافة الفاصلة بين الرأيين من نقطة الانطلاق في الرؤية وليس من صحّة أو خطأ في الرأي، فكلاهما صحيح، فالوطن لاشك مناخ وتضاريس اجتماعية تصبغ أفراده بصفات وطباع متوائمة تجعل مساحة من الأرض مثل الماء للأسماك، وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي في ذلك:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأ للسواد من (عين شمس)
بيد أن هذا حنين وجداني رائع ونبيل لكنه ليس تعريفا أو وصفاً للوطن فالأصل أن الأرض كلها وطن للإنسان وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة النساء الآية 97(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وقد صارت المدينة المنورة وطنا بديلا عن مكة المكرمة بعد الهجرة النبوية، وهو ما يعني أن الوطن هو الجزء من الأرض الذي تأمن فيه وتستأنس بصون حقوقك وحريتك وكرامتك.
وفي عصرنا الحاضر صارت الأوطان كيانات ذات حدود سيادية تنتظم فيها المجتمعات بنظم مختلفة متوافق عليها من قبل أفرادها ويصبح لهذا الكيان أو الدولة اسم وحدود وعلم لدى هيئة الأمم المتحدة، وتمنح أفرادها هويات تثبت انتماءهم للوطن، وصار التنقل في الأرض خاضعا لنظم تحمي وتؤمن الإنسان والمجتمعات من بعضها البعض وتيسر وتخدم تبادل المصالح والمنافع فيما بينها، لكن هذا لم يمنع الهجرة والاستيطان للعقول والخبرات، بل إن دولا تشكلت من مجاميع مهاجرين ومستوطنين مثل الولايات المتحدة ونيوزلندا وغيرهما، وبالتالي بقي وسيبقى انفصال العقل عن العاطفة في رؤية الوطن من عهده الفطري أو لنقل- البدائي - وإن بصعوبة أكبر من ذي قبل بعد ظهور أو نشوء الكيانات المستقلة مستمراً كما هو حال الترحال قديماً نحو أراضٍ أخرى أكثر جدوى للماء والرعي أو للعلم والتجار أو غيرها من الأنشطة وتلبية الاحتياجات، بمعنى أن الوطن فكريا مازال يشبه بدائيته الأولى الغالبة عقلاً وفكراً على العاطفة الوجدانية والتي كانت لا تظهر إلا في البكاء والتوجد على الأطلال، فصارت فكريا تعني الأمن وسلامة الحقوق والحرية والكرامة، ولأننا كما ذكرت سالفا نعيش اليوم في عصر الدول ذات السيادة المستقلة والتي تنتظم فيها المجتمعات بنظم تدير شئونها كأفراد وجماعة في البناء والنمو وتضمن الحقوق والحرية والكرامة لشعوبها وإن بتفاوت وأشكال مختلفة فربما صار واضحا الآن المسافة أو الفاصل بين الوصف العاطفي والوجداني للوطن والوصف الفلسفي الفكري.
وفي اعتقادي أن توصيف الوطن الفكري أجدى وأنفع اليوم للوطن من التوصيف الوجداني وإن صعب أو استحال الاستغناء عنه، ذلك أن رؤية للوطن بالعقل والفكر قادرة على بنائه وحمايته أو كما عبر عن ذلك الملك عبدالعزيز رحمه الله في كلمته الحكيمة (وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه) في حين أن الرؤية الوجدانية لا تبني ولا تعمر ولكن تحفز وتستثير العقل ليقدم أقصى ما لديه لخدمة الوطن، وعلى سبيل المثال يلجأ الكاتب في الغالب لنقد تقصير أو يستفز لتحفيز، وإن رأى البعض فيه لمحة من جلد الذات فإن فيه أيضا لمحة من الوعي المستفز، والمتعارف عليه أن حسن الأداء واجب وأن التقصير عيب، فنرى نقدا وبحثا عن القصور ولا نرى إلا القليل من المدح أو الثناء، وما مرد ذلك إلا لأن نقطة انطلاق الرؤية ناتج عن فكر لا عاطفة، وللعواطف الوجدانية مشاربها في الشعر والنثر ولكن ليس في مقالات الرأي والفكر.
Hassan-Alyemni@hotmail.com