خطاب الملك عبد الله في مجلس الشورى يوم أمس الأول كان خطاباً تاريخياً بامتياز، نقل المملكة من حقبة إلى حقبة تاريخية أخرى؛ فالمرأة التي كانت مُهمّشة، ومقصاة، دخلت إلى مجلس يقوم بمهام سنّ الأنظمة والقوانين ابتداءً في كل ما من شأنه يهم الوطن والمواطن؛ كما ستشارك - أيضاً - كمرشحة وكناخبة في المجالس البلدية كما جاء خطابه حفظه الله. فلا يمكن بحال من الأحوال، مهما كانت ذرائع الممانعين، أن تحرم المرأة من المشاركة في صناعة القرار، والمشاركة في تنفيذه. لذلك فقد لبّى قراره التاريخي هذا مطلباً ملحاً لا يمكن إنجاز تنمية حقيقية، بل ودولة معاصرة، بدونه.
أعرف أن هناك من (ابتدع) تصورات، ثم أسبغ عليها أبعاداً دينية، فخرج من تصوراته وشكوكه وتوجساته وتخرصاته بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، لا في النصوص، ولا في التاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً؛ فظن واهماً أن ما يقوله هو الدين، وما يقوله سواه لا علاقة له بالدين؛ فجعل من أوهامه تلك عقبة كأداء في طريق التنمية بمعناها الشامل؛ بينما أن التنمية، وبالذات التنمية البشرية على وجه الخصوص، تتطلب أن تتحول جميع الأفواه التي تعيش وتستهلك إلى أفواه تعمل وتعطي، وتنتج بقدر ما تأخذ؛ لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة.
ولا يمكن تصور مجتمع نصف سكانه مهمّشين بسبب (الجنس) ويكون مجتمعاً متوازناً، بينما أن العالم اليوم تمارس فيه المرأة وبجدارة كل المهام؛ بل هناك من النساء من هُنَّ أرجح عقلاً وقدرة على التصور والعطاء والتنظير، وأقدر على تحمّل المسؤولية، والوفاء بالواجبات، والضمير المهني، من كثير من الرجال؛ وفي مجتمعنا من هذه النوعيات اللاتي هُنَّ بالفعل مصدر فخر لنا كسعوديين، ومصدر ثراء للوطن. والسؤال: لماذا يتم تهميشهن وإقصاؤهن، ومنهن الطبيبات والمحاميات والإداريات والمهندسات والاستشاريات في جميع المجالات؟.. لذلك فقد كان القرار فعلاً قراراً مبرراً، لا يمكن لعاقل، يزن الأمور بعقل وحصافة وتؤدة وسعة أفق أن يعارضه، أو يتحفّظ عليه؛ فلا يمكن أن تبقى المرأة مهمّشة في زمن تُشارك فيه النساء في جميع المجالات، فلماذا - إذن - لا تشارك في سن الأنظمة والقوانين، والرقابة، والمساءلة، وطرح المبادرات الإصلاحية، والتنظيمية، والرؤى، خاصة في القضايا المتعلقة ببنات جنسها؟
إن هذا القرار التاريخي والشجاع يوازي في أهميته، وفي قيمته الحضارية، وبالذات ما يتعلّق منها بحقوق الإنسان والمرأة على وجه الخصوص، قرار تعليم المرأة؛ بل لن أكون مبالغاً لو قلت إن قرار تعليم المرأة الذي اتخذه الآباء بشجاعة آنذاك، كان بمثابة الأساس التاريخي الذي سوّغ لهذا القرار أن يصدر الآن؛ فلولاه لما وصلت المرأة علماً وتخصصاً إلى ما وصلت إليه، ولولاه لما كان لهذا القرار الذي اتخذه الملك عبد الله مسوّغاً يُبرر اتخاذه؛ ويجعلنا نطمئن على سلامته، وأن من سيدخلن إلى مجلس الشورى سيكن من القدرة والمكانة والعقل والعلم والحرص على الوطن ما يجعلهن بالفعل قادرات على إثراء التجربة، وممارسة ما هو مطلوب منهن في ما انتدبن لتحقيقه.
وختاماً دعوني أختم بعبارة ختم بها خادم الحرمين خطابه التاريخي، تحمل في تقديري كثيراً من الأبعاد والمؤشرات؛ يقول - حفظه الله-: (من حقكم علينا - أيها الإخوة والأخوات - أن نسعى لتحقيق كل أمر فيه عزتكم وكرامتكم ومصلحتكم.. ومن حقنا عليكم الرأي والمشورة، وفق ضوابط الشرع، وثوابت الدين، ومن يخرج على تلك الضوابط فهو «مكابر»، وعليه أن يتحمّل مسؤولية تلك التصرفات).
إشارة: نظراً لهذا الحدث التاريخي السعيد، فقد آثرت الكتابة عنه اليوم، وسوف أكمل الجزء الثاني من مقالي (ما زالت الأسئلة تبحث عن إجابة) بعد غد الخميس.
إلى اللقاء.