بالرغم من التحديات التي واجهتها المملكة العربية السعودية أثناء مسيرتها الطويلة، فقد تمكنت الدولة السعودية الأولى من بسط سلطانها على أنحاء الجزيرة العربية، لكنها أصيبت بضعف عام 1818م بسبب العدوان الخارجي، وسرعان ما استعادت كفاحها بجهود الأمير تركي بن عبد الله آل سعود عندما فتح الرياض وأسس الدولة السعودية الثانية، فكانت على يد محمد بن تركي الذي استطاع أن يوحد نجد كلها من جديد، لكن هذه الدولة الفتية تعرضت إلى تحديات أخرى عام 1891م.
فهيأ الله إعادة إرساء قواعدها وتأسيسها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الذي بدأ كفاحه من الرياض، فانطلق إلى الخرج والأفلاج عام 1903م وظل يجاهد ثلاثين عاماً حتى تمكن من توحيد المملكة تحت راية التوحيد، فكان هدفه هو توحيد المملكة لا طمعا في ملك، ولا رغبة في جاه، بل إحياءً لكلمة لا إله إلا الله، ودعماً للأمتين العربية والإسلامية، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية في تركيا وأعلن البابا من روما قائلاً: (صفقي يا روما واندبي حظك يا مكة فلم يعد اليوم مسلم على وجه الأرض).
فخذل الله بابا روما عندما مكن الملك عبد العزيز من توحيد الجزيرة العربية, وفق نظرة ثاقبة وفكر استراتيجي فطري بجمعه أجزاء شبه الجزيرة جغرافياً, وثقافياً واجتماعياً تحت مظلة عقيدة واحدة ومذهب واحد, في خارطة جغرافية محدودة المعالم مما شكل قاعدة صلبة للأمتين العربية والإسلامية.
وفي 15-8-1932م, صدر عن القصر الملكي بأمر الملك الموحد قراراً وقعه ابنه الأمير فيصل بن عبد العزيز, باختيار اليوم الأول من الميزان من شهر سبتمبر ليكون يوماً وطنياً للبلاد, على غرار ما هو معمول به في سائر بلاد العالم.
واليوم يمر على هذا الإعلان ثمانون عاماً هجرياً, واجهت خلالها المملكة الكثير من التحديات والصعوبات وتجاوزت أعتى الأزمات بفضل حنكة ودهاء مؤسسها الذي قدم كل ما لديه في سبيل تقدمها وازدهارها على مختلف الأصعدة, الاقتصادية, والسياسية, والعسكرية, والتعليمية, والصحية والثقافية والتقنية فتغلبت عليها واستطاعت أن تتبوأ مكانة الريادة بين دول العالم.
إن اليوم الوطني لمملكتنا الحبيبة يذكرنا بالنضال والكفاح من أجل الوحدة، والسعي من أجل نشر الإسلام دين السلام، فيدعونا أن نحاسب أنفسنا ومراجعة ما قدمناه للإسلام والمسلمين والبشرية بشفافية وصدق.
والمملكة منذ يومها الوطني الأول، تتغلب على كل الصعوبات والعقبات، بعون الله ثم بشجاعة عزيمة الرجال، محافظة على المكتسبات التي حققتها في مختلف الميادين، فأصبحت السعودية اليوم من الدول الرائدة والمؤثرة في القرارات العالمية والدولية بفضل الله تعالى ثم بأهميتها الإستراتيجية وحكمة قادتها.
وذكرى اليوم الوطني، تذكرنا بما أنجزه هذا الشعب وما حققه من مكتسبات، فتشعل في نفس أبنائه الروح الوطنية النابعة من انتمائهم لهذا الدين، وهذا الوطن الذي يحكم بشرع الله، ويحافظ على الحرمين الشريفين، وينشر الأمن ويحمي الثروة، حتى أصبحت المملكة، وطناً للسعوديين، وقلعة للعرب والمسلمين، يحتمون بها إذا اشتد عليهم الكرب.
مرت المملكة العربية السعودية خلال مسيرتها عبر مرحلتين، مرحلة التأسيس وكانت في عهد الملك عبد العزيز فشملت توحيد المملكة ووضع الأسس التي قامت عليها.
أما مرحلة تكملة البناء فقد تولاها أبناؤه من بعده متبعين نهج المؤسس بحكمة وسياسة، وانقسمت إلى قسمين، بناء الفرد وبناء الدولة، فالبناء تناول عدة جوانب مترابطة ومتكاملة هي: السياسة، الصحية, التعليمية، الدينية، الاجتماعية، الاقتصادية وغيرها.
فهاهي العاصمة الرياض والتي كان عدد سكانها مع بداية السبعينات في القرن الماضي بلغ ثمانين ألف نسمة ليتنامى عدد سكانها ويتجاوزوا أربع ونصف مليون نسمة مع بداية القرن الحادي والعشرين لتصبح واحدة من أكبر العواصم العالمية وأكثرها تنظيماً وجمالاً، ناهيك عن باقي المدن السعودية تطورا وإنجازات ضخمة يشهد لها القاصي والداني.
ارتبط اسم الرياض بالدولة السعودية الثانية، عندما اختارها الإمام تركي بن عبد الله عاصمة للدولة السعودية، وأطلق عليها اسم الرياض، لما اشتهرت به من البساتين والنخيل، التي كانت تميزها عن الصحراء من حولها، لكن الفتن والحروب مزقتها حتى استعادها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن طيب الله ثراه فاختارها عاصمة رسمية للمملكة عام 1351هـ الموافق 1932م.
بدأت المبايعة بالمؤسس الملك عبد العزيز في المسجد الحرام، ومن بعده أخذت البيعة لأبنائه الملوك سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله، لهذا وقف العالم مندهشاً لسلاسة انتقال السلطة في المملكة، وما علموا أنها سنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، لقد قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
ونجد اليوم أن الشغل الشاغل لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز تعميق وتأصيل الروابط الوطنية للمواطن من خلال الحوار الوطني، هذا الحوار ساهم في دعم الوحدة الوطنية في الجانب الثقافي، وعمل على جمع كافة فئات المجتمع السعودي لتنصهر في بوتقة واحدة.
كما أن خادم الحرمين الشريفين قد استمر بعملية الإصلاح الاقتصادي، ومكافحة الفساد بكل أنواعه ومستوياته وبلا هوادة مع المفسدين والفاسدين محقاً بذلك الحق ومبطلا الباطل ومطوراً نظام القضاء والعدل وفق متطلبات العصر الحديث ومحافظاً على مبادئ الشريعة الإسلامية.
كما بادر خادم الحرمين الشريفين بتحقيق التنمية المتوازنة بإنشائه المدن الصناعية، وتوزيعها على مناطق المملكة مما يساعد على النهوض بهذه القطاعات.
وقد امتد الإصلاح إلى التعليم، فتضاعفت الجامعات، وتأسست جامعة الملك عبدالله للعلوم، إن هذه المشاريع الضخمة التي أنجزت خلال الأعوام الماضية كفيلة بنقل الإنسان السعودي من مرحلة المواطنة إلى الوطنية، هذا بالإضافة إلى مساهمة التطور والتطوير لكافة الوزارات، وعلى رأسها العدل والصحة والإعلام كما أن دعمه لمكانة المرأة زادها دافعا لتتبوأ مكانة عالمية.
فقد كانت فكرة الوطنية مجرد حب لطبيعة الأرض بجبالها وسهولها وهوائها لكنها اليوم أصبحت اكثر عمقا بعد أن تطورت عجلة التنمية لمختلف جوانب الحياة وقد ساهم تطور وسائل المواصلات وتقنية الاتصالات في سهولة إيصال المفاهيم الوطنية لليوم الوطني والذي يعتبر ذكرى للوحدة والاستقلال وفخرا للإنجازات المتميزة, فإن المملكة تحتفل بهذا اليوم الذي تعززت فيه الوحدة وأقرت فيه العدالة والمساواة بين أبناء الوطن, فنجد الاحتفالات والأناشيد الوطنية والشعارات تحرك مشاعر الحماس لدى المواطنين وتفاعلهم للذود والدفاع عن بلادهم وتعميق الولاء في نفوسهم والتي نراها في كل مناسبة من المناسبات، ومع كل تحدٍ من التحديات الشعب السعودي يقف متماسكاً، وقد تجلى ذلك في تضامن الشعب ووقوفه ضد الإرهاب الذي أراد أن ينال من وحدة هذا الوطن ومكتسباته ومقدساته. وإنجازاته الكثيرة والتي منها على سبيل المثال لا الحصر على مستوى الصحة, والإدارة, والثقافة, ونقل التقنية, وتحلية المياه والطاقة البديلة ومكافحة التلوث إضافة إلى أن المملكة الأولى في المساعدات الإنسانية والأولى في المساعدات الإنمائية العربية، كما أعلنت الأمم المتحدة بأن المملكة أكبر المانحين الدوليين استجابة لنداءات المساعدات الإنسانية قياساً على نسبة التبرعات من إجمالي حجم الاقتصاد الوطني.
فالمملكة تبرعت بنسبة 00.19% من إجمالي الناتج المحلي تبوأت المملكة الريادة في الدول العربية بنسبة 81.1% بقيمة إجمالية بلغت 5.7 مليار دولار.
وأكد ذلك التقرير الاقتصادي العربي للمساعدات الإنمائية عن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.
إن هذه الإنجازات, قد حققها أبناء هذا الوطن بعد توفيق الله, بتوجيهات القيادة الرشيدة, مؤسسة على اللبنات الأولى التي وضعها المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز, ثم سُلمت الراية لأبنائه تباعاً من بعده, فكان كل منهم يكمل خطوات الآخر.
إن هذه المكتسبات لابد أن نحافظ عليها, ونعمل على تطويرها للأجيال القادمة, حتى يسود التقدم والرخاء والسلام, فهذه هي الرسالة التي أمرنا الله عز وجل أن نحملها لسعادة البشرية, وليس لتدميرها, بالإرهاب, والعنف, والتطرف, فقد قال عليه الصلاة والسلام, (كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله).
إن علينا أن ننظر إلى أخطائنا تماماً كما ننظر إلى إنجازاتنا وإلا أصبنا بالاسترخاء الفكري والعلمي ولابد أن نسير على وفق تخطيط مدروس والثقة في القيادة لأن التكاتف بين الحاكم والمحكوم هو الأساس في بناء الأمم وقوتها ومنعتها ولتجربة المملكة خصوصية عظيمة فهي تجربة متطورة لم تقف عند حد الوحدة، بل تابعت تطورها ولا تزال فهي تواكب العصر وتأخذ بقيمه التي لا تتعارض مع ثوابت الدين وثوابت الأمة.
ولا يخفى على عاقل حصيف معاني كلمة لصاحب السمو الملكي النائب الثاني الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية (فالمجتمع الآمن يعتبر البيئة المناسبة للنمو الاقتصادي، وعامل الجذب الأساسي للاستثمارات الأجنبية).
وفي كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد الأمين ووزير الدفاع والطيران: (إن الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب والتضامن بين القادة كفيلة بتحقيق الأهداف, فالأمم لن تتقدم إلا بالتضامن والعدالة, ولا عدالة إلا بشريعة أو قانون يحميه إن التقدم والازدهار لا يأتي من قبل الثروات النفطية ولا من قبيل الأعمال التلقائية، بل يتحقق على أيدي رجال أخلصوا لدينهم وأمتهم).وبصوته الدافئ الحنون وبقلب رحيم قال الأب الرؤوم مطمئنا شعبه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله: (دام انكم بخير انا بخير) حتى أصبحت كلمته مضربا للمثل في الحب والعطاء، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
* مدير عام الهيئات الطبية والمكاتب الصحية في الخارج بوزارة الصحة
drkalhussein@yahoo.com