مثل شعبي واقعي من قلب شبه الجزيرة العربية، ويناسب بيئتها التي تشتهر بوجود العواصف الترابية القوية في بعض فصول السنة، والتي تتميّز بأنها تبقى فترة زمنية قصيرة، لكنها تؤذي الناس الذين لم يكونوا يتحصّنون في مبانٍ محكمة. المهم الآن مضمون المثل؛ فهل يوجد أحد بتلك الخفة التي تمكن العجة من حمله، بحيث يطير معها، وتأخذه بعيداً عن مكانه؟ علماً بأنّ أكثر صيغ المثل استخداماً هي: لا تطير في العجة! وهي عبارة تنبئ عن أنّ استخدامه مجازي، بمعنى: لا تأخذ الشيء الذي يطفو على السطح أنه أصل الشيء وجوهره! أو بصيغة أخرى: لا تتسرّع في الحكم على الأشياء واتخاذ قرارك بشأنها!
تعالوا نرى مضرب هذا المثل في الواقع الحالي للمجتمع السعودي! كم منكم من لا يسمعه رئيسه أو أستاذه أو أبوه أو أمه أو زوجه أو زوجته .. إلى الآخر؟ بمجرّد أن يسمع (أو تسمع) رأس الموضوع يطير في العجة، ويبدأ يزبد ويرعد، أو يرفض الموضوع ومناقشته، حتى دون أن يسمع بقية تفاصيله، أو ربما بنى على ما سمعه من كلمات أفكاراً ورؤى عن الموضوع، أو عن الشخص الناقل للموضوع. وكثير من الشخصيات “الطائرة في العجة” (المصطلح جميل، فيما يبدو، ويصلح عنوان شخصيات كرتونية)، لا تتوانى عن ادعاء فهمها الكامل للآخرين ونواياهم وطباعهم، وأنهم يعرفون كل شيء؛ وهذا - فيما أظن - سرّ استعجالهم في بناء هيكل الفكرة من مجرّد سماع مصطلح يرتبط بقاعدة علمهم العليم.
لكن هذه الشخصيات جميعها يهون خطرها أمام تكوّن هذه النماذج في سدّة القرار من أي نوع كان. فتصوّروا أنّ مخططاً استراتيجياً أو وزيراً أو سفيراً يتسم بهذه السّمة، ويستسلم لطبعه، دون أن يرغم نفسه على التأني، أو أن يجبره غيره على معرفة كافة الأمور المتعلّقة بالموضوع! فما الذي يحصل في هذه الحال؟ أظن أنّ كثيراً منا الآن قد استحضر أشخاصاً مسؤولين في ذهنه، وبدأ يستعرض الكوارث التي أنزلوها بالناس وببلدانهم بسبب هذا الطبع، وكونهم غير مجبرين على تغييره.
وفي هذا السياق تذكّرت نقاشاً دار مؤخراً بيني وبين أحد الملحقين السياسيين السابقين لدينا؛ وفيه استغرب من ضعف الكوادر التي تدير مؤسساتنا - خاصة سفاراتنا في الخارج والأخرى المتعلقة بالثقافات الأخرى - بطريقة سطحية، أقرب إلى الإجراءات الإدارية الروتينية منها إلى المراكز الفكرية. فقلت له: أحد الأسباب أظنك تعرفه لمكثك الطويل بيننا، وإلمامك أيضاً بثقافتنا وطرق تفكيرنا، وهو تقديم المعرفة الشخصية والتزكية على أسباب الكفاءة ومناسبة الأشخاص لمواقعهم. أما الآخر، فهو ضيق صدر المسؤول بسماع التقارير، أو عدم السعي إلى طلبها من الأصل (في سلوك عبّرت عنه ثقافة شبه الجزيرة العربية، من خلال عبارة يتداولها المسؤولون باستمرار: هات الزبدة!)، والزبدة عندهم ليست خلاصة موازنة بين الاختيارات المختلفة، واتخاذ قرار بشأن الخيار الأصلح للحالة التي يتولى مسؤولية القرار فيها. بل إنّ التركيز يكون في الغالب على إنجاز التقرير أو الرد على طلب المسؤول (الأعلى)؛ وفي حالات ليست قليلة يهتف المسؤول المباشر عن التقرير: أريد الأوراق كاملة قبل يوم كذا (بمعنى أنّ التعجُّل وتحديد سقف زمني للرد أو الإنجاز هو الأهم). وفي كثير من تلك الإجراءات المحدّدة بزمن، توضع التقارير أو الردود على الرف بعد وصولها لفترة تزيد - أحياناً - بعشرة أضعاف من الزمن المحدد للرد أو كتابة التقرير، إن لم تهمل بكاملها. فلا عجب أن تكون قراراتهم مبنية على ضعف اتصال بالواقع كشخصيتنا الخفيفة التي طارت في العجة.