لا أعتقد أن هناك كلمة تتردد في الإعلام، وخاصة الإعلام العربي مثل كلمة (ثورة) وذلك انعكاس للأحداث التي جرت وتجري فيما عرف بالربيع العربي، بدءاً بالثورة التونسية، والمصرية والليبية، ومروراً بالثورة اليمنية والسورية، والواقع أن تلك الشعوب بقيت أكثر من مائة سنة تتفاعل مع المتغيرات،
وتأمل في الوصول إلى غاياتها وأهدافها مع كل تغير تمر به، ولكنها لم تجن من ذلك إلا الشوك والآلام والفقر ونقص الحريات، وانتهاك الكرامة، وتزايد الاستبداد والدكتاتورية، فمصر مثلا لم تحكم من قبل المصريين خلال أكثر من ألفي سنة، حيث كان حكامها من خارجها، من الرومان ومن جزيرة العرب، ومن الأتراك، والمماليك والألبان وغيرهم، وكان محمد نجيب وبعده جمال عبد الناصر أول من حكم مصر من أهلها بعد ألفي سنة من الحكم الخارجي، وكان التغيير قائماً على انقلاب عسكري سمي ثورة، وكان ظاهرة الإعلامي يشي بالحرية والديموقراطية، ولكن حقيقته استبداد وتحكم وتسلط ولم يتمكن المصريون إلى اليوم من اختيار رئيس لهم، فتمت إزاحة محمد نجيب بعد عامين من الانقلاب، وبعد وفاة عبد الناصر تولى نائبه أنور السادات، وبعد مقتل السادات تولى نائبه محمد حسني مبارك، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن ليبيا التي قامت على انقلاب عسكري سمي ثورة، وحكم بواسطتها القذافي اثنين وأربعين عاما كلها تسلط واستبداد واستخفاف بعقول الناس ومقدراتهم، والواقع أن الشعوب العربية التي انخرطت في ثورات الربيع العربي تحاول التخلص الحقيقي من الاستعمار وتبعاته، وأن تنال استقلالها وحريتها الحقيقية، وأن تدخل في المنظومة العالمية التي تعلي من شأن كرامة الإنسان، وتحترم آدميته، وتبذل كل ما في وسعها من أجل مكافحة فقره وجهله والأمراض التي تفتك به، والواقع أن ما يجري في دول الربيع العربي من قورة قد جرى مثله في المملكة العربية السعودية قبل أكثر من مائة سنة، فقد كان المجتمع يعاني من الفرقة، فشيخ كل قبيلة يمثل حكومة مستقلة، يسجن، ويقتل، ويعاقب، ويفرض الإتاوات على الناس، وإن كان يخضع ظاهريا لحكومة أقوى منه، ويقدم لها بعض ما يتحصل عليه من الناس من أموال لتسكت عنه، وكانت البلاد تعاني من وجود عدد من الحكومات في عسير وجيزان ومكة وحائل والشرقية، وبعضها يخضع لنفوذ الدولة العثمانية أو دول أخرى خارجية، وفي ظل ذلك الوضع كانت الحروب تشتعل باستمرار بين قبيلة وأخرى، وبين حكومة وحكومة فرعية، وكان الخوف منتشراً بين الناس، حتى أن المسافر للحج يدفع إتاوة للقبائل التي يمر بها مقابل حمايته، وكان نظام الثأر منتشراً، فكم من بريء أُخذ بجريرة المجرم لمجرد أنه من قبيلته أو من جماعته أو من أقربائه، وكان الفقر يتخطف الأنفس والأرواح، وكانت المجاعات تأتي بصور متكررة، وخصوصا عندما يعم الجفاف وتنقطالأمطار، وكان الجهل ضارباً بأطنابه في جميع المناطق، فالجائع والخائف لا وقت لديه لطلب العلم والمعرفة، وكان البعض يهاجر إلى الدول المجاورة بحثا عن لقمة العيش، فالفرقة، والخوف، وانعدام الأمن، وقطع الطريق، والنهب والسلب، والجهل، والمرض، والفقر، وكثرة الإتاوات كانت منتشرة كما هو الحال في بعض دول ما يسمى بالربيع العربي، أمام كل تلك المتغيرات السلبية اجتمع الناس حول الملك المؤسس عبد العزيز في ثورة على تلك الأوضاع، وإذا كانت الثورة الفرنسية بقيت تتفاعل أكثر من خمس وعشرين سنة، فإن الثورة السعودية بقيت تعتمل ما يقارب ثلاثين عاماً دفع الناس ثمنها الكثر من أرواحهم وأموالهم ودمائهم، ولكنهم جنوا ثمارها يانعة بعد اكتمال مشروع الثورة بتوحيد البلاد، وإعلان مسمى المملكة العربية السعودية في عام 1351هـ فقد أبدل الله خوف الناس أمنا، حتى أن الشخص يسافر من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها وهو لا يخشى أن يعتدي أحد عليه أو على أهله وماله، ولعلي أذكر هنا موقفاً طريفاً لشاعر من قبيلة بني مالك اسمه الحميم، كان في حفل زواج في زهران عندما وصلهم خبر وفاة الملك الموحد عبد العزيز في عام 1373هـ فتوجس الناس خوفا من أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من الخوف والقتال والنهب والسلب، فقال أبياتاً تعبر عن ذلك التخوف:
قال الحميمي رحمك الله يابن سعود
أمنتنا بعد ذاك الخوف والشيفقان
ودي يكنْ لاجل هذا الجيل عاش الملك
والا يكنْ يوم جاه الموت متنا معه
الله الله، لقد تمنى أن يمتد العمر بالملك المؤسس حتى يرسي قواعد الأمن للجيل الناشئ، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فتمنى أن يكون الموت قد أخذهم مع الملك عندما أخذه، حتى لا يشهدوا العودة إلى الأوضاع السابقة بظلامها وسلبياتها المختلفة، لقد واصل أبناء الملك المؤسس البناء، واستمرت الثورة ضد الفرقة، وضد الخوف، والمرض، والجهل، وأصبحت البلاد واحة أمن واستقرار وازدهار، وبدل الله الوضع القديم المزري بوضع أحسن منه، وأصبحت البلاد منطقة جذب لملايين المهاجرين من مشارق الأرض ومغاربها، بدلا من هجرة السكان المحليين طلباً للقمة العيش في الخارج كما كان الحال في الماضي، وعم الأمن والاستقرار، وارتفع مستوى المعيشة للغالبية العظمى من أفراد الشعب السعودي، وانتشرت المدارس والمستشفيات والجامعات والطرق وغيرها من مظاهر التقدم والازدهار، ومن أجل ذلك كله لا نجد في المملكة حركة تشابه ما هو موجود في دول الربيع العربي لانتفاء أسبابها، ولعل أهم سبب يتمثل في الحفاظ على كرامة الإنسان، وعدم أخذه بجريرة غيره، وتوفير احتياجاته الأساسية التي يسعى الآخرون إلى توفيرها من خلال ثوراتهم وحركاتهم، وبقي أن نقول إن الكمال لله، والذي يقومون على شؤون البلاد بشر ليسوا معصومين من الأخطاء، ولم يقولوا يوما من الأيام بذلك، ولهذا فلا بد أن يكون هناك جوانب من النقص، وبعض الأخطاء هناك وهناك، وأعتقد أنها لا تخفى على المسؤولين وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله، الذي انتهج سياسة التقريب بين المناطق في عمليات التنمية، وتوزيع الخدمات، وخصوصا في مجال التعليم والجامعات، وشق الطرق السريعة، وإشراك أبناء المناطق المختلفة في إدارة شؤون البلاد حسب كفاءاتهم وقدراتهم، وقد أثبتت الدراسات أن الوطن فيه كفاءات عالية، وطاقات بشرية فاعلة، تحتاج إلى مزيد من التفعيل والتوجيه لتتمكن من النهوض وتعويض النقص المتوقع في المستقبل في عائدات النفط، والاعتماد على الإنسان في بناء التنمية وقيادة البلاد والتنافس مع الأمم والشعوب الأخرى، وهذا لن يتم إلا بمحاربة الفساد، وبمزيد من العدالة، وتساوي الفرص، ومزيد من هامش الحرية المسؤولة والبناءة، نسأل الله أن يديم على وطننا أمنه ورخاءه واستقراره، وأن يوفق الجميع إلى التلاحم والتكاتف في سبيل الخير والصلاح والازدهار لجميع أجزاء الوطن، ولما يخدم مصالح العرب والمسلمين والإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها.
zahrani111@yahoo.com