عندما دخـلـت التكـنولـوجـيا على حياة الإنسان تفاءل الجميع بها، وراهن الخبراء والمهتمون أنها ستكون الأداة التي تنقل الإنسان من السعادة إلى الشقاء، وأن كل شيء سيكون ممكنا بضغطة زر، إلا أن أحدا لم يتوقع أن تسيطر هذا الأزرار وهذه الأجهزة على حياتنا، وأنها وبدلا أن تقربنا من البعيد أصبحت تبعدنا عن القريب، وتسرق على مرأى ومسمع ومباركة منا، أجمل اللحظات التي نعتقد أنها بحضرة التكنولوجيا ستكون أجمل وأسرع وأكثر تشويقا وإثارة، كما كنت أعتقد أن داء التكنولوجيا والتقنية وأجهزة التواصل الحديثة وإدمانها هو مرض خبيث لا يصيب إلا من هم فوق الخامسة عشرة، وكنت أحسد الأطفال على أرواحهم البريئة وألعابهم الظريفة.. أتأملهم بحب على طاولة أحد المطاعم وهم يطلقون سراح أعينهم اللامعة لتتجول في المكان، وتتأمل كل شيء وتستمتع به، ويشاهدون كل حدث دون أن يشوهوه بالانشغال بأي شيء آخر.. يستمعون لمن يتحدث ولهفة أعينهم تسبقهم، فلا صوت هاتف يفسد جلستهم، ولا إشارة رسالة تجبرهم على الالتفات كل دقيقة إلى الهاتف.. ولكني اكتشفت مؤخرا أنني كنت على خطأ! وأن هذا الداء المزمن لا يعرف صغيرا أو كبيرا حين أصبحت منتجات «آبل» و«بلاك بيري» بيد عدد هائل من أطفالنا، ما بين آي-فون وبلاك بيري وآي-باد.
فلا أبالغ حين أقول: إن جهاز الآي-باد مثلا ً الذي يصل سعره أحيانا إلى الخمسة آلاف ريال، أصبح لعبة رائجة بين الأطفال يعبثون بها في كل حين، فلا أحضر أي مجلس إلا وبيد الطفل أو الخادمة هذا الجهاز، ترافقهم في حلهم وترحالهم، ولا تحلو أوقاتهم إلا بصحبتها، وسط ترحيب ساذج من الأهل بهدوء أبنائهم المريب أمام هذا الضيف الجديد، الذي أسكت أفواههم، وأطفأ نشاطهم الحركي، ووأد أسئلتهم قبل أن تولد، واغتال براءتهم وجعلهم عبيدا جددا وكائنات ضعيفة أمام هذا الطوفان الجارف، فنجد أننا أمام أطفال بلا براءة أو نشاط أو طفولة!
كيف لا؟ والطفل ومنذ أن يفتح عينيه في الصباح وهو أمام شاشة شغلته عن العالم وجعلته غير مهتم بأي شيء يحدث خارجها.. جرب أن تتحايل على طفل لتجذب انتباهه بأن بيدك حلوى مثلا ً، أو اعرض عليه أن تروي له قصة مشوقة، وانظر إذا كانت ردة فعله كما كانت قبل أن يصاب بإدمان هذا العالم.
جلست أختي ذات العشرة أعوام بجانبي، وطلبت مساعدتي في فك إحدى رموز الآي باد فأخبرتها بأني لم أستخدم الآي باد يوما في حياتي، فرمقتني بنظرة تعجب وسألتني بسخرية ممزوجة بالشفقة قائلةً: بأي عالم أعيش؟؟ فشعرت أني تجاوزت السبعين وتأخرت عن الركب كثيرا رغم أني أكبرها بعشرة أعوام فقط تساءلت هل أنا من كبرت أم هي التي كبرت؟؟
لست ضد التكنولوجيا إطلاقا ولست من هؤلاء الذين يبكون على الماضي ويرفضون المستقبل ويحاولون إيقافه، بل بالعكس.. ولكني أشعر أن الأطفال كانوا أجمل وألطف وأكثر روعة وبراءة قبل أن تستعبدهم تلك الأجهزة، وتجعلهم منعزلين وبليدين بلا روح.. كانوا أروع حينما كانوا يلعبون ويتشاجرون وتفضح الدموع براءتهم الساحرة.. كانوا أذكى عندما يتحايلون على بعضهم ويحضرون المقالب، وكانوا أبهى عندما يتباهون بثيابهم وألعابهم الجديدة.. باختصار كانوا «أطفالا» فأعيدوهم إلينا أيها الآباء والأمهات.. أعيدوا لهم براءتهم بابتكار ما هو أشهى من تلك الألواح الإلكترونية، أوجدوا لهم البديل الممتع في الحديقة أو الغرفة أو المكتبة وستعود طفولتهم للحياة، أنعشوا ذاكرتكم وابحثوا عن الألعاب اللذيذة الممتعة التي كانت تملأ طفولتكم وتضيئها، وعلموهم إياها ستجدون أطفالكم أذكى وأجمل، ويحيون حياة أغنى بالنشاطات والذكريات.. فلا ذنب لهم بكل هذه التقنية التي دخلت حياتهم دون استئذان وسرقت أيامهم وأوقاتهم وأطفأت الشعلة في أعماقهم..
أؤمن أن الطفولة كما الشباب لا تعوض، وأنها مكتبة ذكريات ومخزن تجارب يغذي حياتنا القادمة ويمدها بالدفء والحب والإنسانية فكيف ستمتلئ مخازن أطفالنا إذا استنزفت ساعاتهم وأيامهم بالتحديق بتلك الأجهزة الجامدة؟؟
قد لا يستدعي الموضوع نبرة الحزن التي أتحدث بها ولكن الحقيقة تقول: إن أيام الطفولة هي أجمل الأيام في مفكرة العمر وأنها مواسم خصبة للزراعة والنماء ووقود المستقبل وضوئه فلنجعل طفولة أبنائنا تستحق أن تعاش بل وتروى.
نبض الضمير:
(الطـفولـة هي الخـطـوة الأولى في مـاراثون الحياة)