كتبت مرة عن ثقافة الإقصاء، وأنها تتمظهر في مصادرة الحقيقة، واحتكارها وفق سياسة: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد»، وهي تتمثل في علاقة سلبية بين أطراف المجتمع، تبدأ
بحالة خلاف، وتنتهي بنفي أطراف خارج حقوق المواطنة، عندما تجرم حق النقد، وإبداء الرأي في فضاء الوطن الواحد، وهو ما لم نتأقلم معه بعد، مع أن الواجب هو الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وتفهُّم مواقفها، - سواء - اختلفنا معها، أم أيدناها.
أكتب ما تقدم، بعدما كثر الكلام - هذه الأيام - حول ضبط رؤية الهلال وفق المعايير العلمية، أو إطلاق رؤية الهلال دون ضوابط علمية، أو حتى عقلية، كما أشار إلى ذلك - الدكتور - عبد الله المسند، بأن تلك الحرب دخلت عقدها الثالث - لا أطال الله عمرها -، إلا أنه في هذه السنة، ومع هلال شوال 1432هـ، اتخذت منحى جديداً، حيث استخدمت فيها أسلحة ثقيلة كـ»الجزيرة، والعربية»، وأسلحة خفيفة كـ»المواقع الإخبارية، والمنتديات الإلكترونية»، وأسلحة ذكية كـ»البلاك بيري، والواتس آب» في شأن الانتصار لطرف دون آخر، وساهم في غمار الحرب الكلامية، - القاصي والداني، القريب والبعيد -، حتى أضحى العيد غير سعيد، ومن سلم لسانه منها لم تسلم آذانه. بل وصل الحال ببعض تلك الآراء أن وصفت علم الفلك، وعلماءه، بأنه من العمل الباطل المردود المخالف للعقل، والنقل.
على أي حال فإن الرسالة التي أراد خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - إيصالها للمواطن، بعد أن تسلم أعلى مسؤولية في المملكة، هي: أن طريقة تفكيرنا يجب أن تتغير، دون أن نغلب العاطفة على العقل، وألا نخضع لضغط الواقع، وإحباطه، بل نسير بخطى ثابتة، ونراجع برامجنا، وعلاقتنا بما يتناسب مع متطلبات المرحلة، ومتغيرات الأحداث، والمستجدات. - ولذا - كان أحد أهم أهداف مركز - الملك - عبدالعزيز للحوار الوطني ترسيخ مفهوم الحوار، وسلوكياته في المجتمع؛ ليصبح أسلوباً للحياة، ومنهجاً للتعامل مع مختلف القضايا، ويعزز حرية التعبير المسؤول، وفقاً للثوابت الشرعية، والوطنية.
إن دعوة - خادم الحرمين الشريفين -، كافة ألوان الطيف الفكري، والمذهبي والعلمي في المملكة إلى الحوار الوطني؛ من أجل استثمار النقاط المشتركة مع الآخرين، استثمارا إيجابيا، وتجسير الفجوة مع الاتجاهات الأخرى، بشرط الالتزام بالثوابت، والقطعيات الشرعية، والتيسير بضوابطه الشرعية، بما يحقق المصلحة العامة، ويدرأ المفسدة الكبرى، مع الاهتمام بالشأن العام، والالتزام بآداب الحوار.
قبل أيام ناقش - فضيلة الشيخ - عبد المحسن بن ناصر العبيكان - المستشار في الديوان الملكي في بعض الصحف المحلية، والمنشور يوم الاثنين - الموافق -: 7/ 10/ 1432هـ، دخول الشهر بين الرؤية المجردة، والمراصد الفلكية، وأنه يجب عدم إغفال أقوال أهل الاختصاص في هذا الجانب، وهم الفلكيون. - ولذا - أجمع من حضر - مؤتمر الأهلة - المنعقد في جدة من علماء، وفلكيين من عدد من دول العالم الإسلامي، والذي افتتح بحضور - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، على وجوب الاعتماد على أقوال الفلكيين في النفي دون الإثبات، وأفتى به - الشيخ - محمد بن عثيمين - رحمه الله -؛ لأن الإثبات يختلف حسب المكان، والزمان. ومعنى قبول قولهم في النفي: أنهم إذا قرروا أن القمر يغرب قبل الشمس، فلا يصح - أبدًا - قبول أي دعوى من الشهود، أنهم رأوه؛ لأنها تعتبر رؤية للمعدوم، وهذا مستحيل. أما إذا قالوا: يغرب بعد الشمس، فيمكن قبول الشهادة الحقيقية للهلال، وتتأكد صحة هذه الرؤية بظهور الهلال في المراصد؛ لأن تحديد إمكانية الرؤية بالدرجة، فيه اختلاف - حسب - صفاء الجو، وقوة النظر، ونحو ذلك كما ذكره - شيخ الإسلام - ابن تيمية.
كما يجب تطبيق لائحة تحري رؤية الهلال التي صدرت بالأمر السامي الكريم المبني على قرار هيئة كبار العلماء، وقرار مجلس الشورى، والتي تضمنت تشكيل لجان يشترك فيها الفلكيون بالمراصد، مع الاستعانة بمن يعرف بحدة البصر، وهذا يعني الجمع بين المراصد الفلكية، ورؤية العين المجردة، وإلا فما فائدة حضور الفلكيين بالمراصد الفلكية، التي تقرب البعيد مئات المرات عن نظر العين البشرية، ثم يقبل دعوى الشاهد برؤيته مع عدم رؤيته بالمرصد، فإن هذا مما يستحيل عقلًا، وشرعًا، وحسًا، فلا بد في قبول الشهادة من أن تنفك عما يكذبها عقلًا، وحسًا، وشرعًا. ومع اجتماع المرصد، والشهود، والفلكيين، يتلافى الخطأ، والوهم؛ لاستحالة أن ترى العين المجردة، ما لا يرى بالمرصد الفلكي في المكان الواحد، والزمان الواحد؛ لأن المرصد الفلكي يكبر حجم الهلال إلى المئات.
وحينما تابع - فضيلة الشيخ - عبد المحسن شهادات الشهود في سدير، وشقراء، والغاط - كلها -، أدرك أنهم يتبعون طريقة حسابية قديمة؛ لترائي الهلال. ملخصها: أنهم ينظرون إلى وقت ولادة الهلال، ووقت غروب الشمس من الحسابات الفلكية، ويستخرجون الفسحة بينها بالدرجات، بحيث إن كل ساعتين، درجة واحدة، ويضربون الحاصل بأربعة، والناتج هو مكث للهلال. وعند الترائي يتوهمون أن الهلال سيمكث هذا المقدار من الزمن، ويهيئ لهم بأنهم رأوه، ويشيعون أنه مكث بالمقدار الذي يستخرجونه من أذهانهم، إلا أن إجهاض القمر في بعض شهور السنة، يكشف سطحية هذه العملية البدائية، وهؤلاء الشهود لا يشاهدون الهلال البتة، ولو كانوا واثقين من شهادتهم لفسحوا المجال لوسائل الإعلام بالنقل المباشر؛ لطريقة رصدهم. وأزيد على كلام فضيلته، بأن بعض من يصدّر بيانات حول ملف الأهلة - كل عام -، هو نفسه لا يعترف بدوران الأرض، ولا يصدق بأن الإنسان نزل على سطح القمر، ولا يعترف بالحسابات الفلكية التي تعتمد دوران الأرض أساسا لها، مثل: حسابات المثلثات الكروية التي تربط بين حركة الأرض حول الشمس، وحركة القمر حول الأرض، كما أنه لا يملك أي خلفية علمية في مجال علم الفلك، بل هو لا يقبل مجرد التحاور مع علماء الفلك، بسبب قولهم بدوران الأرض حول الشمس.
وإذا كان القدح في الفلكيين، والتشكيك في قدرتهم بمجرد الأوهام، والخيالات، لا تجوز، إذ لا يمكن إجماعهم على الخطأ في هذا العلم المتقدم، والذي أثبت صحة ما يخبرون به في مدة الخسوف، والكسوف، ووقت شروق الشمس، ووقت غروبها، وتعامد الشمس في كبد السماء، وكل ما يتعلق بالعلم الفلكي البحت، رغم أنهم يخبرون عن ذلك قبل وقوعه بزمن طويل. وهذا ما قرره - شيخ الإسلام - ابن تيمية بأن خبر الحاسب بالكسوف، والخسوف ليس من علم الغيب، ولا من الكهانة، أوالتنجيم، فأين يكمن الحل - حينئذ -؟
أعتقد، أن دعوة - الدكتور - عبد الله المسند الجهات المعنية في السعودية، - وبالأخص - وزارة العدل الموقرة، ووزيرها المبجل، بتشكيل لجنة حكومية شرعية، علمية - عاجلة -، مهمتها تقصي الحقائق، ودراسة الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، في عشرات الحالات الممتدة - عبر - أكثر من عشرين سنة، لجنة تتولى الاختبار، والتمحيص؛ لإنهاء المعركة، وإراحة الأمة من الغمة، ولجم الفريق المخطئ، ومن يقف خلفهم - كائناَ من كان -. فالحق في هذه المسألة الخلافية السنوية، لا ينقسم على اثنين، بل هو مع واحد من الطرفين.. وأن تكون مهمة اللجنة المقترحة، تقصي الحقائق عبر الاختبارات الميدانية، الحسية، العلمية، لكلا الطرفين بشأن آلية رؤية هلال، ويكون أمام اللجنة «10» أهلة قادمة قبل رمضان - القادم -، من خلال فحص، واختبار معطيات الطرفين عبر اختبارات ميدانية ذكية، ومصورة للعالم أجمع، وبهذه الطريقة العلمية التي ذكرها - الدكتور - عبد الله سيتحقق الهدف المنشود من تلك اللجنة قبل رمضان العام - القادم -، وستفصح اللجنة المقترحة عن حقيقة المعركة، وعن زيف، وخطأ أحد الفريقين.. وأن يشهد الناس الاختبار التاريخي للمعطيات الحسابية والتي يدعي أصحابها أنها قطعية. ويشهدوا - أيضاً - حقيقة رؤية الشهود، والتي يدعي أصحابها أنها حقيقية، وحتى يتبين للناس عبر النتائج المسجلة، والمكتوبة من قِبل اللجنة. وهذا هو حق الأمة على اللجنة: أن تكشف الحقيقة، وتريحنا من موال سنوي، وصداع دوري، وسوف يتضح للجنة، والناس أجمعين، حقيقة علم الفلك، وحساباتهم، وحقيقة الشهود، وشهاداتهم في هذا الشأن، والقضية التي أصبحنا فيها نزيد، ونعيد مع كل عيد.
بل إن نتائج تلك اللجنة المقترحة، سوف تريح المسلمين من ادعاء المترائين، أو حدس، وتخمين الفلكيين. وهذا ما يريده - الدكتور - عبد الله في حالة صدق المترائين في خطأ، وإخفاق الفلكيين في حساباتهم، فسوف يُحسب للمملكة العربية السعودية حق اكتشافها خطأ مسار، وحركة، وسرعة القمر حول الأرض، وهذا - في حد ذاته - اكتشاف غير مسبوق، قد يؤهلنا لجائزة علمية عالمية.
إن الحوار يجب أن يكون هو الفصل، والفيصل في هذه القضية المهمة، كما عبر عنه ربنا - سبحانه - في قوله: « وجادلهم بالتي هي أحسن «. وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، في إطار التنوع ضمن الوحدة، والوحدة ضمن التنوع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن ترسيخ ثقافة قبول الآخر، عن طريق ترسيخ لغة الحوار، هو إقرار حقوق كل المكونات الفردية، من تبادل الأفكار، والبراهين، والحجج؛ لنستوعب مدركات العالم من حولنا، طالما أن هذا الاختلاف لا يمس الأمور العقدية، أو الثوابت الدينية، ويمنع التطاول على الرموز الدينية، والأشخاص، ويركز على معالجة الأخطاء، لا شتم المخطئين.
شكرا خادم الحرمين الشريفين، إن دعوتنا إلى الحوار على كلمة سواء بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، دون تكريس ثقافة الإقصاء، وسيادة الرأي الواحد، حتى وصل الطعن بالفلكيين إلى حد السب، والتشهير، والتخوين، والدعوة إلى سجنهم - مع الأسف -. وغاب نقاش الفكر مع الفكر، وحوار العقل مع العقل، وعدنا إلى المربع الأول حين ضعفت الثقة، وولدت حالة من الهشاشة في البنية الثقافية، والعلمية، والفكرية.
drsasq@gmail.com