كان مشهد المعتمرين، والمصلين في بيت الله الحرام، في رمضان، مشهدا مفعما بالكثير من الدلالات، منها ما يخص لُحمة المسلمين، وصورة تكاتفهم، وهم يصطفون متناكبين, متجاورين, لا ما يفصل بينهم، ولا ما يميز أحدهم عن الآخر،..
الجميع في صفوف منتظمة، يقفون بين يدي رب واحد، يتجهون بقلوبهم إليه تعالى، ويلهجون بألسنتهم له، وبجوارحهم نحوه..,
يسألون حاجاتهم من إله فرد أحد، توحدوا على الإيمان به، واجتمعوا على طاعته، واشتركوا في الثقة به سبحانه الصمد، وتساووا في الأداء لعبادته، كأنهم بنيان مصفوف, لا ما يفرقهم إلا حاجة من طلب غذاء، أو شربة ماء، أو لحظة استراحة، أو حاجة لإغفاءة يستعيدون فيها نشاطهم،...
يتخيل الناظر إليهم كيف انتصر المسلمون يوم كانوا على قلب واحد.., كما هم في مسجد بيت الله الحرام..
كان المشهد درسا عميقاً, ومؤثراً، ومذكراً، لكل العالم عن المسلمين في توادهم، وتراحمهم، وقوتهم، وشملهم المجموع.. على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، ولغاتهم..
استوعبهم المكان والأهل.., وخصص لهم الجهد والنفس..
الناظر إليهم يزداد بهم قوة، ويتعمق بهم حسُّه بإيمانه، وشعوره بخشية ربه..
هم وحدهم يذكِّرون الغافل، ويبعثون الرحمة في القلوب القاسية، ويحرضون على العبادة، ويزيدون من روح التنافس في العبادات, والطاعات، والتقرب للواحد المعبود، الذي لا يُسجد لغيره, ولا يُركع لسواه....
تعب الموجهون يسألون منهم, من يحجم عن المسجد اتقاء التزاحم، ممن سبقت له العبادة في المسجد الحرام، فلا يزيدهم حب الله, والتقرب منه إلا إصراراً،.. لكن الكريم وحده تعالى يفسح لهم، وقد قيل: إن مائدة الكريم لا تضيق بضيوفه.., وقد احتملت أرضية المسجد كلَّهم، صغيرهم، وكبيرهم، شائبهم, وشابَّهم، شيوخهم، وكهولهم، وأطفالهم، من النساء, والرجال.. فكان المشهد دافعا لإحياء القيم التعبدية، وبعث الهمم الإيمانية, والتزود من مفاهيم العبادة، والطاعة، بالاستزادة، والنهل، والتنافس..
زادهم الله من فضله، وتقبل منهم, وحقق لهم الأجر، والثبات، وأنالهم أعلا الدرجات، فهو الكريم, الجواد، العفو, الغفور, المجيب، القريب..صادق الوعد، من لا يخيب فيه راجٍ..
كان المشهد أيضا الدليل القاطع على رعاية المسلم الراعي, بالمسلم المرعي..,
من مواطن يعيش، لضيف يزور، لمقيم سيعبر، لقاصد بنبض..
حيث اتسعت عمارة المسجد، وشكلت أهم، وأكبر مشروع معماري في العالم، في بقعة محدودة, اتسعت لملايين من البشر يؤمونها في وقت واحد.., على جلال المقصد,واجهت عظيم الجهود, أمنا, ورعاية, وعناية، وبذلا... لا من يملك الجزاء لها إلا رب البيت العتيق سبحانه العظيم..
مشهد عظيم، في شهر عظيم..
نسأل الله أن يتقبل من العابدين رجاءهم، ويبلغهم مقاصدهم،..
وأن يضاعف الأجر لمن رعى، ولمن بذل, ولمن سهر, ولمن قدم عينه, وحسه, في خدمة ضيوف الرحمن, في أعظم شهر حرم, في أقدس بقاع الأرض، خصها الله بالبيت العتيق, والدعوة السماوية.