يفرح المؤمنون من أمتنا المسلمة بحلول عيد الفطر المبارك بعد أن منَّ الله - سبحانه - عليهم بإكمال شهر الصيام والقيام.. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} آملين من ربهم الغفور الرحيم أن يقبل منهم كل عمل صالح.. وما أطيب لدي وأسعد لنفسي أن أقضي إجازتي بمناسبة هذا العيد - وفي غيرها من المناسبات - في مسقط رأسي ومرتع طفولتي وملاعب صباي! وهذا الشعور هو ما يتملكني منذ ما يزيد على نصف قرن.

وأذكر أن سفري من الرياض، حيث كنت طالباً في جامعة الملك سعود إلى عنيزة كان على ظهر سيارة (وايت) مملوء بالوقود، ولم يكن الطريق معبداً ولا ممهداً، لكن ثقل الحمولة كان مما يساعد على عدم حدوث مطبات متعبة، إضافة إلى أن قائد السيارة - وهو مالكها - كان بالراكبين رفيقاً.

وكانت أعلام السعادة ترفرف على الجميع، ابتداء من انطلاق السيارة من الرياض، ثم منحدرة من ديراب، وانتهاء بانحدارها من الجال الشرقي المشرف على عنيزة، وهو الجال الذي أشار إليه الشاعر الكبير محمد العبد الله القاضي - رحمه الله - بقوله:

لي ديرة وادي الرمه هو شماله

وغربيه الضاحي وشرقيه الجال

وأشار إليه كاتب هذه السطور في قصيدته (عودة الغائب) بقوله:

تنام ما بين جال كُلّه شمم

وبين كثبان رمل كلُّهن إبا

وإن تأمَّلت أزياء تتيه بها

رأيت من بينها البرحي والعنبا

وكانت قصائد الهجيني في ذلك السفر - وإن لم يكن على ظهور الهجن، بل على ظهر سيارة (وايت) صنع في الغرب - لا تتوقف أثناء المسير إلا للاستماع إلى سالفة جميلة أو فكاهة شيقة.

وتطورت وسائل الراحة في السفر، بل تغيرت، فأصبح المرء يقطع المسافة بين الرياض وعنيزة براً في حدود ثلاث ساعات أو تزيد قليلاً إن كان سائق السيارة ممن يراعون نظام المرور، وقليل ما هم، وأصبح المسافر وحده في سيارته أو معه أسرته لا غير، وبات للمذياع، أو المسجل، الكلمة في أغلب الأحيان. وإذا كانت الراحة الجسدية واختصار زمن السفر واضحين الآن فهل شعور المسافر بالسعادة، في الوقت الحاضر، له الوهج، أو الطعم، الذي كان موجوداً بالأمس؟ وإذا كانت البهجة تغمر نفوس أهل فيحاء القصيم بقضاء إجازتهم بين ربوعها الجميلة فإن مما يعكِّر صفو هذه البهجة مايراه المرء من كثرة أولئك الذين لا يستعملون الإشارة الدالة على وجهة سيرهم، يميناً أو يساراً أو وقوفاً، أثناء قيادتهم لسياراتهم وهذا لا يدل على استقامة حضارية، ناهيك عن أن يكون دالاً على تقدم حضاري.

أما بعد:

فقبل خمس سنوات كتبت قصيدة عنوانها (صدى العيد) من بواعث إلهامها قصيدة أبي الطيب المتنبي، التي مطلعها:

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟

وحينذاك كان في طليعة قضايا أمتنا، إضافة - بطبيعة الحال إلى قضية فلسطين - قضية العراق وقد جعلت مطلع قصيدة المتنبي مطلعاً مقتبساً لقصيدتي، ومن أبيات تلك القصيدة، تناولاً لقضية العراق:

المشفقون على دار السلام علت

وجوههم من مآسيها تجاعيد

جحافل الموت قد حلَّت بساحتها

وضيم في لابتيها أهلها الصيد

وملتقى الرافدين المستطاب غدا

فيه لأقدام محتليّه توطيد

أين المفر؟ وهل في الأفق من أمل

يُرجى؟ وهل يعقب التمزيق توحيد؟

مستقبل ليس يدري كنهه فَطنٌ

في رأيه عند طرح الرأي تسديد

والعيد عاد ودامي الجرح يسأله:

«عيد بأية حال عدت يا عيد؟»

وهاهو ذا عيد رمضان المبارك يحل في أجواء شهدت فيها أمتنا - وما زالت تشهد - هبات شعبية ضد أوضاع غاية في السوء أوجدتها أنظمة فاسدة ظالمة متجبرة وكنت قد أشرت إلى زعماء تلك الأنظمة في أبيات من قصيدة عنوانها (شجون وراء الحدود) قائلاً:

والزعماء نادر

من لم يخن تَعَهُّدَه

أغلبهم في قلبه

على الرشاد مَوْجده

تكبَّد الشعب على

يديه ما تكبَّده

من محن تفرضها

أوامر مشدَّدة

وحوله عصابة

فاسدة ومفسدة

بكل أنواع الأذى

نفوسها مزوَّدة

ترى الحرام واجباً

أو سنَّة مؤكَّده

فتنهب المال

وتلهو

حُرَّة مُبدِّده

وتنزل البطش بمن

لم يولِها تَودُّده

أو جعل الشرع

الكريم

في الحياة مورده

ولقد حققَّت هبَّة الشعب التونسي، ثم من بعدها هبِّة الشعب المصري، ما حَقَّقت من نجاح تمثل في الإطاحة برأسي النظامين التونسي والمصري وزبانيتهما، وتكشفت للأمة وجوه كريهة من وجوه الفاسدين المفسدين المتجبرين، والأمل بالله قوي أن يكتمل النجاح للشعبين الكريمين بسد جميع الأبواب والنوافذ أمام الانتهازيين المتصيدين في الماء العكر للانقضاض على مكتسبات الهبَّتين الشعبيَّين العظيمتين من أفراد أو جماعات.وتكاد هبَّة الشعب اليمني تُحقِّق هدفها، والأمل في الله قوي، أيضاً، في أن تثبت الحكمة اليمانية المشهورة وجودها، فيستجاب للمطالب الشعبية بطريقة لا تجعل للمواجهات الدموية سبيلا.أما هَبَّة الشعب الليبي الكريم ضد النظام، الذي كان رئيسه أسوأ رؤساء أمتنا المتجبِّرين، وأشنعهم ارتكاباً للجرائم ضد شعبه وأمته، فلم يبقَ من اكتمال تحقيقها للنجاح - وأنا أكتب هذه السطور في اليوم الأول من شهر سبتمبر - إلا القبض - بحول الله - على ذلك الدكتاتور وبقية أعوانه المتنفذين، وهذا اليوم، الذي كان حقيقة يوم احتفال لهم وحدهم، طويت صفحته السوداء.

وأما هَبَّة الشعب السوري، التي واجهت - وما زالت تواجه - أفظع أنواع البطش، التي منها قطع التيار الكهربائي عن أحد مستشفيات حماة بحيث مات العديد من الأطفال الخدج والذين في الحاضنات، فقد تحدثت عنها في مقالة نشرتها قبل أسبوعين بعنوان: «ويلي عليها وويلي من مصيبتها».وأختتمها بعبارات لا أرى بأساً في إعادتها، وهي:

«يا للألم شدَّة وطأة وفداحة وجع والمرء يرى البطش الأعمى الفظيع يرتكب فوق تلك ربوع ذلك الوطن دون مراعاة لحق الإنسان وكرامته، رجلاً وامرأة، شيخاً وطفلاً، ويشاهد التهديم جنونياً لا يُوفِّر في غيِّه حتى بيوت الله، وكم هو مؤلم ومفجع أن يرى المرء منارة أحد المساجد في دور الزور تتحطم وتهوي بنيران جيش يفترض أن يكون حامي العباد والبلاد، وكم هو مثير للاشمئزاز أن يرى المرء أفراداً من ذلك الجيش فوق العربات العسكرية يرفعون أصابعهم علامة للنصر بعد أن ارتكبوا ما ارتكبوا من تدمير في إحدى المدن السورية وكأنهم قد انتصروا على أعداء أمتنا من الصهاينة في فلسطين وفي الجولان، أو المرتفعات السورية، التي ترزح تحت نير احتلال أولئك الأعداء منذ عام 1967م.

إلى أين تسير هذه الأمة المبتلاة؟ ويلي على سورية ذات الحضارة المجيدة، وويلي من مصيبتها الراهنة المأساوية! ولا أملك إلا أن أقول: { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }.