منذ أن أشرقت من هذه البلاد أنوار التوحيد وهي تزخر بالخير والعطاء والفضيلة، ولا غرو فهي مهبط الوحي ومنطلق النور وموئل الإشعاع ومنبت لغة الضاد وركيزة المفاخر وينبوع المآثر.. ولقد مرت بمراحل ضعفت فيها تلك المآثر في فترة من الزمن.. وقد قيَّض الله لها من أبنائها من المصلحين من رزقهم الله إيماناً وعزيمة وجَلَداً وصبراً وهبوها بعد توفيق الله كل تضحية وإصلاح وعمل وصبر وجهاد.. كما قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}..
فسلكوا طريق الدعوة إلى الله ومناصرة الحق والعدل والذب عن العقيدة وواصلوا جهودهم واتخذوا القرآن منهجاً وسلوكاً وعزة ورفعة وانطلقوا يحملون شعار التوحيد ويحكمون القرآن والسنة ويطبقون شريعة الله الخالدة.. واستمرت تلك الخطوات الموفقة حتى زادها رسوخاً وقوة حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على قواعد من الإيمان، يخفق في سمائها لواء التوحيد فأسس مملكته الزاهرة وجدد الدولة وأحياها وقاد سفينتها نحو الخير والإصلاح والإنشاء والاستقرار ونشر العلم وبث أنوار المعرفة وحفلت سيرته وحياته بالجهاد والبناء العطاء.. فلقد سخَّر جهوده في خدمة الدين والأمة وركز اهتمامه على قضايا الإصلاح والأمن والوحدة والنهضة والبناء والتعليم والعلم والمعرفة وجاهد في الله حق جهاده..
لقد كان جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - يهتم بالكتاب ويحرص عليه فجهوده المباركة في نشر العلم والمعرفة واضحة وملموسة وأن مكتبته الحافلة تدل على اهتمامه بالعلم وحرصه على نشر المعرفة بما لها من أثر إيجابي فهي الأساس والمنطلق الحقيقي لأية نهضة..
وأن الجانب الثقافي في حياة الملك عبد العزيز لعظيم جداً.. فقد حرص على تنقية العقيدة الإسلامية من الخرافات والبدع كما اتخذ خطوات عديدة نحو نشر العلم وطباعة أمهات الكتب الإسلامية ونشرها مجاناً في جميع أنحاء المملكة وتوزيعها في العالم الإسلامي على حسابه الخاص وكان يكتب التوجيهات والنصائح الدينية التي تحث على العقيدة السلفية الصحيحة.. ولقد طبعت في الفترة الأولى من حكمه عدة كتب لابن تيمية ولابن القيم وأحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من علماء الإسلام كما استضاف العديد من علماء الإسلام الذين يدينون بالعقيدة السلفية الصافية كما شجع الأدب والتراث وكان يحفظ الكثير من الأشعار ويتمثل بها وكان مجلسه الخاص والعام لا يبدأه إلا بعد درس في القرآن والحديث والسيرة النبوية وأنشأ جريدة أم القرى والتي كانت تنشر الفكر السليم والثقافة والتراث الجليل وغير ذلك من الأسس الفكرية والبذور الثقافية والمقومات العلمية التي كانت النواة للمستوى الثقافي والعلمي الذي نعيش فيه.. حيث وضع لبنات هذا الكيان.. ولذا فقد أقام دولته على أسس راسخة من العلم والإيمان ولقد كان من أهم أسباب نجاح جلالته - رحمه الله - هو تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فاتخذ من كتاب الله دستوراً يعمل بموجبه وطبَّق أحكام الشريعة الإسلامية السمحة.. فنشر الأمن والطمأنينة في أنحاء المملكة.. وأصبح العدل شريعة تطبق في كل شبر من أراضيها..
ولم ينس فضل العلم والأدب، بل كان حريصاً على أن يتزود بذلك كل فرد من أبناء شعبه.. فأنشأ كثيراً من المدارس الحديثة بمراحلها المختلفة في معظم بلدان المملكة، وأرسل بعوثاً علمية كثيرة إلى الخارج.. واستقدم في عهده المعلمين من الدول العربية الشقيقة.. ثم أخذ في طبع الكثير من الكتب العلمية والثقافية.. ووجَّه عناية خاصة إلى كتب العلوم الإسلامية المخطوطة.. فأمر بطبع طائفة منها وتوزيعها مجاناً.. كما طُبعت على نفقته كتبٌ كثيرة في الهند ومصر لم يذكر عليها اسمه.. إلا ما جاء على بعض مطبوعاته في الهند من أنها (طبعت على نفقة من قصده الثواب من رب الأرباب) كما أمر بشراء مجموعات من كتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب، القديمة والحديثة.. لتوزيعها مجاناً..
ولقد كان من شدة اهتمام جلالته بالعلم والأدب، أن كان له مجلس يومي يبدأ بعد صلاة العشاء وينتهي بانقضاء سهرة الملك.. يفتتح هذا المجلس بالدرس الذي تُتلى فيه أنواع مختلفة من الكتب في التفسير والتاريخ والأدب.. وكانت العادة أن يبدأ بتفسير القرآن، ويثني بالتاريخ.. ويتناول الحاضرون من أهل المعرفة وسواهم من الجالسين، ما يثار من تساؤلات ومناقشات بتعليقاتهم..
وكان هذا المجلس يزدان بالمقرئين والعلماء من أمثال الشيخ حمد بن فارس والشيخ عبد الله بن أحمد العجيري.. حيث كان يتلو عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكان راوية يحفظ مسند الإمام أحمد عن ظهر قلب وأخبار العرب وأقوال الشعراء والحكماء والأدباء.
وكان لجلالته عناية باختيار القراء ولا بد أن يكون من حفاظ القرآن الكريم والعارفين باللغة العربية ومن ذوي الأصوات الحسنة والاطلاع الجيد..
وكان - رحمه الله - يستقبل العلماء ويجتمع بهم في كل يوم خميس من كل أسبوع في جلسة عامة مفتوحة في قصره..
وفي موسم الحج كان يلتقي بكبار العلماء والزعماء ويناقش معهم القضايا الإسلامية ومسائل العقيدة الإسلامية.. كما بعث الدعاة والمرشدين على العالم الإسلامي..
وكان سخياً في الإنفاق على إحياء كتب التراث الإسلامي.. ويذكر خير الدين الزركلي أن الملك عبد العزيز قد وجه عناية خاصة إلى كتب العلوم الإسلامية المخطوطة، فأمر بطبع طائفة منها وتوزيعها مجاناً..
من تلك الكتب:
التفسير - تفسير القرآن الكريم، للإمامين ابن كثير والبغوي - 9 مجلدات، أوضح البرهان في تفسير أم القرآن للمعصومي - مجلد، التاريخ - البداية والنهاية لابن كثير 14 مجلداً، طبقات الحنابلة - لابن أبي يعلي مجلد، روضة الأفكار (تاريخ ابن غنام) 2 مجلد، الفتاوى - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - لجماعة من علماء نجد 4 في مجلد، الدرر السنية في الأجوبة النجدية لجماعة من علماء نجد 4 في مجلد، مجموعة رسائل وفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية مجلد، مجموعة رسائل وفتاوى - لبعض علماء نجد مجلد، ولقد كانت مكتبة جلالته الخاصة خير شاهد على ما ذكرناه، كما أنها تعكس لنا مدى اهتمام جلالته بعلوم الدين الإسلامي ودعوته المستمرة للتمسك بمبادئه والعمل بأحكامه.. وتحتوي هذه المكتبة على 1551 مجلداً في شتى فروع المعرفة الإنسانية - تحتل كتب الدين الإسلامي بعلومه المختلفة من تفسير وحديث وفقه وتوحيد والسيرة النبوية حوالي 35% منها، أي ما يزيد على ثلث المكتبة، كما بلغت نسبة الكتب التاريخية والجغرافية وكتب التراجم أكثر من 25% معظمها عن التاريخ الإسلامي والعربي في عصوره المختلفة بالإضافة إلى تاريخ الدول الأوروبية والآسيوية والأفريقية.. أما اللغة العربية وآدابها فقد لقيت مكاناً رحباً في مكتبة جلالته، إذ بلغت نسبتها ما يقرب 20% فيها دواوين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي والشعر الحديث بالإضافة إلى المعاجم اللغوية وقواميس المصطلحات وكتب النحو وتنوعت النسبة الباقية من المكتبة بين كتب السياسة والقانون الدولي، والعلوم العسكرية والطب، والاقتصاد، والزراعة، بالإضافة إلى الكتب العامة والموسوعات العربية مثل: صبح الأعشى للقلقشندي، ودائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي، ودائرة معارف بطرس البستاني.
وتضم المكتبة في داخل الموضوعات العديد من أمهات الكتب، من بينها ما قد مضى على طباعته ما يزيد على مائة عام، مما يضعها في عداد الكتب النادرة كما تحتوي على بعض المخطوطات منها (نهاية الراغب في شرح عروض ابن الحاجب المسماة المقصد الجليل في علم الخليل).
ولقد لقيت مكتبة الملك عبد العزيز - رحمه الله - اهتماماً بالغاً، كان لجامعة الملك سعود شرف استلامها، فاهتمت بتجليد مجموعاتها للحفاظ عليها، وجنَّدت لها الخبراء والفنيين الذين تولوا فهرستها وتصنيفها وإعداد فهرسي المؤلف والعنوان، وعندما أُنشئت دارة الملك عبد العزيز بالمرسوم الملكي الكريم رقم م-45 وتاريخ 5-8-1392هـ نصت الفقرة (ج) من المادة الثالثة من نظامها على إنشاء قاعة تذكارية تضم كل ما يصور حياة الملك عبد العزيز وآثار الدولة السعودية منذ نشأتها.
فكان أن انتقلت المكتبة إلى الدارة في شوال 1392هـ ووضعت في مكان خاص، هيئ لهذا الغرض داخل القاعة التذكارية، يتصدره مكتب جلالته الذي أهداه الرئيس الأمريكي ترومكان في عام 1370هـ - 1950م وهو مصنوع من خشب الأرو الممتاز.
ولقد نشرت قائمة ببيلوجرافية لمحتويات هذه المكتبة في العددين الأول والثاني من السنة الأولى لمجلة (الدارة) حتى تتبين للقارئ والباحث أهمية هذه المكتبة من استعراض محتوياتها فهي تشتمل على الآتي:
الموسوعات العربية - الدوريات العربية العامة، المؤلفات المجموعة - الدراسات النفسية، المنطق والأخلاق، الدين الإسلامي، القرآن وعلومه، التفسير - الحديث وعلومه، أصول الدين، الفقه وأصوله، فقه المذاهب الإسلامية، الأخلاق الإسلامية، السيرة النبوية، العلوم العسكرية، الإدارة العامة، الاقتصاد، اللغة العربية وآدابها، الطب، الأدب، الشعر، التاريخ، آداب اللغات الأخرى، الجغرافيا، التراجم، الفلاسفة، الملوك والرؤساء والقادة، اللغويون، الأطباع، رجال الأدب، الأنساب، والأعراق، التاريخ القديم، وغير ذلك من العلوم والمعارف والآداب من أمهات الكتب ونوادرها.
وهكذا في مجال الاهتمام بالعلم والعلماء تبدو أعمال الملك عبد العزيز مشرقة في تاريخ هذه البلاد، وأن تاريخه سجل طويل مفعم بالأخلاق والمبادئ والقيم وسيظل التاريخ شاهداً أميناً على ذلك، ما تعاقب الليل والنهار وقصارى القول فتلك صفحات قليلة من تاريخ مجيد.