عدت أمس من جدة إلى الظهران بانتهاء زيارات العيد. في المطار المكتظ استوقفت تأملي الوجوه المنقبضة الأسارير. لا أحد يبتسم إلا الأطفال. أهو التعب؟ أم الغضب؟ ما الذي أثار المعتمرين المصريين والجزائريين قبل أيام؟ سير الحقائب الذي ما زال متعثراً ونحن ملطوعين عند الكاونتر لساعة؟ أم الأخبار اليومية بدموية الموت؟
هل أصبح الغضب والصخب سيد الساحة؟ ومحرك كل حشد؟
أثناء احتفالاتنا بالعيد في اجتماعات العائلة الممتدة شاكست مشاعري الشخصية أسئلة معتمة يثيرها ما أرى من تغطيات إخبارية عما يجري في عالمنا قريباً وبعيداً: مظاهرات مستميتة ضد قيادات عمياء الرؤية, وصور دموية لشباب وشيوخ وصغار راحوا ضحية مقاومة الجشع والإستبداد. طقس ما زال خارج الشعور بالأمن. ربيع جاء خالياً من الأمطار ومليئاً بالغبار واستمر ليغدو صيفاً قاتلاً؟
لا أتكلم عن الصومال فقط بل عن العالم كله فقد وصل الغضب القاتل إلى النرويج وإلى بريطانيا والهند ومن لا يعلنون.
مثل هذا التوتر لا يأتي إلا من تراكم مواسم قاتلة للشعور بالأمن.
هل حرم الأوائل الصيد في فصل الربيع لحماية النشء القادم واستمرارية الحياة وذلك بفرض زمن آمن يتيح للصغار فرصة الحياة عبر تجنب أن يقتلوا الأمهات الحاملات والمرضعات؟
في الصومال اليوم يتصيد موسم الجوع والعطش جيلاً كاملاً من الصغار لا يستطيع آبائهم وأمهاتهم حملهم وإنقاذهم من موت محتم في صحراء قاتلة.
وآلاف غيرهم قتلتهم وتقتلهم قرارات قيادات أوطانهم حين تسلط عليهم قوات «الأمن»!
هل الطبيعة -حتى حين تتصحر- أرحم بالخلق من أنفسهم ومجايليهم وقياداتهم؟ الأوائل ربطوا معنى الاستمرارية بالانتماء الذي يؤمن الحماية للكل ولو اضطروا إلى التضحية للبعض إرضاء لآلهة افتراضية. من هنا جاء موسم وفاء النيل في مصر مثال من أمثلة كثيرة مارست تقديم القرابين بالأضحيات البشرية في مجتمعات بشرية أخضعت الفرد لفرضيات المجموع الخاطئة.
ربما كانت القرابين المختارة لشرف التضحية تلج الموت المحتم راضية لأنها تؤمن بفرضيات غير منطقية عن ضرورة موتها قربانا.. مثلها مثل الإرهابيين المضللين حيت يفجرون أنفسهم ويقتلون غيرها ويرون في ذلك طريقهم إلى جنة الخلد ورضا الخالق.
ولكن مثل هذا الذي أرسل رسالة مشروطة الى مسئول كبير يعده بحماية أمنه وضمانه إذا خضع لشروط الفئة الضالة وحول البلد كلها لترسانة جفاف التطرف؛ هل كان يفكر في خيارات الناس؟ أم في تفضيلاته الشخصية الفئوية؟ هل الوضع الذي يطلبه هو الوضع «الآمن»؟ لا أرى نتيجة له إلا المزيد من التوتر والغضب.
* أسأل نفسي مرة أخرى عن معنى «الأمن» وموقعه في حياة المواطن العربي : الأمن سلاح ذو حدين وكل دولة ذات سيادة لها نظام أمني ممأسس. وكل نظام أمني هو -على الأقل في الدساتير وفي التصريحات الرسمية- يقوم لحماية المواطن؛ في الغالب من شر المواطن «الآخر» الذي لا يلتزم ويخرج على النظام المعتمد حين يقف النظام ضد رغباته وطموحاته الفردية اللامشروعة.. المواطن الذي يعتنق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة حتى لو عنى ذلك تعديات على الآخرين أو على السلطة أو على القانون.
والمأساة تتفاقم حين هذا المواطن الآخر قد تسلق بطريقة أو بأخرى ووصل إلى قمة صنع القرار في السلطة فنسي معنى الأمن وتراءى له أن بإمكانه أن يستبد برأيه وتصرفاته متجاهلاً ضرورة احترام أمن الآخرين. يبقى السؤال القاتل للروح قبل الجسد:
لماذا الأنظمة الأمنية التي توضع لحماية المواطن العربي , تتشوه لأمن الفئات والأفراد المتسلطين؟ فتغدو طقساً متواصلاً للتوتر والغضب؟