مرت أيام رمضان ولياليه عجلى، وكانت أياما ولياليَ ذات طابع خاص في الشكل والمضمون، هنأت فيه الروح، واستراح العقل، وقويت الأواصر، واطمأنت النفوس، وصحت الأجسام، وزكت الأموال، كل جوانب الشخصية نالها الكثير من الخير والفضل في هذا الشهر الكريم، في هذا المقال والمقالات اللاحقة
وبالاسترشاد بما ورد في كتاب «اللياقات الست» لمؤلفه المربي الشاعر الأديب الدكتور أحمد البراء الأميري، سوف نتناول المكتسبات الروحية والعقلية والاجتماعية والنفسية والجسمية والاقتصادية التي تحققت للصائم، وما يفترض أن يقوم به للمحافظة على تلك المكتسبات بعد انقضاء هذا الشهر الكريم.
من طبائع الأمور ومسلماتها أن كل مسلم سعى في شهر رمضان واجتهد وتواصل مخلصا مع ربه بعبادات مختلفة، وطاعات متنوعة، قدر استطاعته، وفي الوقت نفسه أمسك بعزم وحزم، وبنية صادقة عن المعاصي والذنوب، وتجنب كل السبل المفضية لها، أو المعينة عليها، الحسية منها والمعنوية. فمن العبادات التي التزم الصائمون بأدائها، الفرائض في أوقاتها، بل إن البعض يسابق غيره في الذهاب إلى المسجد كي يحظى بالمكان الأقرب إلى روضة المسجد، بعد أن كان يذهب إلى المسجد متثاقلا يسحب رجليه قبيل الإقامة أو معها، ليس هذا فحسب، بل إن الكثيرين يحرصون على التقرب إلى الله بالنوافل والاستزادة منها في كل الأوقات، لهذا حري بعد أن تأصلت الرغبة في المداومة على الفرائض والنوافل والإقبال العارم عليها، والشوق المتجدد إليها، أن يحافظ على جذوتها ويلتزم بأدائها في أوقاتها ومجاهدة النفس في ذلك.
ومن العبادات التي يحرص الصائمون عليها تلاوة القرآن بخشوع، وتدبره بتأمل آياته والتأثر بها، فكم من أعين دمعت، وقلوب خفقت، عند ما تلت آيات الرحمة والرجاء، والثواب والجزاء، وآيات الترهيب والوعيد، وتفاعلت معها، بعرض الحال المقصرة على ما تحمله الآيات من دلائل ومعاني، يقول أحدهم : بكيت كثيرا عندما سمعت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (27-28) سورة محمد، يقول: كأنني أسمع هذه الآية الكريمة لأول مرة، وتخيلت أن الله يخاطبني بهذه الآية، طبقتها على نفسي، فوجدت أنها تنطبق عليَّ تماما، فأين أنا من ذاك الموقف ؟ عندها بكيت طويلا طويلا، وعزمت على التصحيح والبدء بتجنب كل ما يسخط الله، وتتبع ما يرضيه سبحانه من الفرائض والنوافل وسائر العبادات.
وحيث إن النفوس ألفت القرآن وتعايشت معه تلاوة وتدبرا، فبالإمكان المحافظة على ذلك بتخصيص ربع ساعة فقط قبيل النوم لقراءة ما يتيسر من القرآن بقلب خاشع متأن، ونفس مطمئنة متهيئة لتدبر الآيات التي يتم قراءتها، مع الأخذ في الاعتبار اختيار آية واحدة للتمعن فيها والتفكر، واستيعاب دلالاتها ومعانيها، ومن ثم إلزام النفس للعمل بهديها والمداومة على ذلك حتى تصبح سمة ثابتة مميزة في الاعتقاد والسلوك.
ومما ألفته النفوس وتعودت عليه في رمضان، الدعاء والتذلل للخالق سبحانه، والإنابة إليه والتوبة من الذنوب والخطايا، والمحافظة على الأذكار بعد الصلوات، وفي أوقات المساء والصباح، وتحري أوقات الإجابة، فاستحضار الأدعية والأذكار والمحافظة عليهما مما يعزز الارتباط الروحي بالله سبحانه، ويجعل النفس في إطارها الصحيح الذي يجعلها دائما مرتبطة بخالقها، وبهذا يتحقق لها الرضا والسير في الطريق المستقيم.
ومن ثمار رمضان اليانعة، رقة القلب وصفائه، فتوالي العبادات الرمضانية وكثرتها، ساعد القلب على الانقطاع عن مواطن الشهوات، وشوائب الشبهات، ومن ثم تنقيته مما علق به من سواد وظلمة حجبته عن الخوف والرجاء، عن الخشوع والبكاء، إن دموع البكاء من خشية الله تنظف الوجدان وتجلو صدأه والران الذي أحاط به وقطعه عن التواصل مع بارئه.
إن توالي العبادات في رمضان، يعد بمثابة دورة تدريبية مكثفة أكسبت النفوس العديد من السلوكات الحميدة، والممارسات الحسنة، ترتب عليها إحجام النفس وإمساكها عن المعاصي والذنوب، فما أجمل صفاء الروح وأبهاها وهي على تواصل مع ربها، وما أقبح النكوص على الأعقاب إلى المواطن التي تعكر هذا الصفاء وتقطعه عن مخافة الله وخشيته.
ab.moa@hotmail.com