الدرس الأول المستفاد من أحداث ما سمي بالربيع العربي هي لعبة الرأي العام، فمن الواضح جداً أن تقييماً لتوقعات واستطلاعات الرأي العام لم تتنبأ بالحالة الشعبية التي كانت كامنة في دواخل الشعوب العربية التي أفرزت تغيرات جوهرية في تلك المجتمعات.. ولم تحاول الأنظمة العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا
وغيرها من الدول أن تقرأ جيداً نبض الشارع بما يكفي لمعرفة حالة الفوران التي كان تغلي في دواخل مواطني تلك الدول.. والأسوأ طبعاً هو أنه في حال قرأت وفهمت وأدركت تطلعات الناس وهمومهم وبشكل جيد فلم تتخذ أي خطوات عملية على أرض الواقع..
الرأي العام هو من أهم الميكانزمات المجسدة لطبيعة العلاقة بين النظام السياسي والمواطنين، وهو الأداة الأساسية التي بموجبها تتعرف الحكومات على هموم الناس وشئونهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم نحو أداء حكوماتهم في الشأن العام. ولكن فيما يبدو أنَّ العلاقة بين السلطة والمواطن في كثير من الأنظمة في الدول النامية وفي مقدمتها الدول العربية هي علاقة افتراضية أكثر من كونها علاقة مبنية على أساس متين من الفهم والاستيعاب وإدراك المسئوليات التاريخية التي ينبغي أن تتحملها الحكومات..
وهنا أذكر بما كتبته هنا في (صحيفة الجزيرة) قبل عامين في 28 شوال 1430هـ عن نظريات الرأي العام وافتقاد أنظمة الدول النامية لاستيعابها في معرفة شئون الناس واهتماماتهم، وكنت قد أشرت تحديداً عن نظرية حلزونية الصمت أو دوامة الصمت للباحثة الألمانية إليزابيث نويل نيومان. ولا شك أن دوامة الصمت هي من النظريات المهمة التي تحتاج إلى وقفة متأنية لمعرفة الرأي العام في أي مجتمع من المجتمعات، فهي تشير إلى أن ما نراه من استطلاعات الرأي العام في أي وقت من الأوقات قد لا يعكس توجهات الرأي العام الحقيقية.. فقد يعتقد الناس أن الرأي العام هو في اتجاه معين، وهذا ما يجعلهم يعبِّرون عن هذا الاتجاه، وليس بالضرورة عن اتجاهاتهم الحقيقية. وخوف الناس من الشعور بالعزلة الاجتماعية يجعلهم يعبِّرون عن آراء تتداولها وسائل الإعلام على أنها هي الرأي العام السائد في المجتمع..
وقد أثبتت إليزابيث نويل نيومان في دراساتها التطبيقية لهذه النظرية، أن تغيير الرأي العام من أصعب الأمور، لتمسك الناس بالرأي العام على أنه الرأي السائد في المجتمع.. وفي حقيقة الأمر - وهذا ما أثبتته - أن الرأي الشخصي قد يختلف عن الرأي العام، ولكن الناس تعَبِّر عن آرائها في استطلاعات الرأي العام عن آراء الآخرين أكثر من التعبير عن الآراء الشخصية.. ولو جمعنا الآراء الشخصية في المجتمع لكانت تمثل رأياً آخر مختلفاً عن الرأي السائد.. وهكذا يقل عدد الأشخاص الذين يجاهرون برأي مختلف عن رأي الجماعة، أو عن الرأي العام في المجتمع.. وتولدت من هذه النظرية نظريات أو فرضيات جديدة، بما فيه نظرية الأغلبية الصامتة التي تشير إلى أن الخوف قد يعيق التعبير عن رأي معين، ولهذا فيتشكل في المجتمع رأي صامت، لا يستطيع التعبير عن موضوع معين خوفاً من وصفه بأنه رأي ضد التيار العام في المجتمع..
وبالنظر في أحداث الثورات العربية نلاحظ أن الرأي العام كأداة قياس اتجاهات الناس وآرائهم لم تكن موجودة أو معلنة على أقل تقدير، كما أنه في حالة وجودها فهي استطلاعات هامشية تتنبأ بما على السطح الأمامي وتتشبث بالقشرة الخارجية، ولا تدخل في عمق التجربة الشخصية للمواطن العربي.. ولهذا فإنَّ دوامة الصمت هي التي تفسر لنا وبوضوح أنَّ ما كان يختلج داخل مواطني تلك الدول العربية المشار إليها كانت مختلفة عمَّا - ربَّما - استطاعت استطلاعات الرأي العام أن تكشفها في قراءة تطورات وتجولات تلك المجتمعات.. وبقراءة نتائج الأحداث في هذا الخصوص نجد أنَّ الآراء غير المعلنة لمواطني تلك الدول في مرحلة ما قبل التغير هي الأجندة الجديدة التي أشعلت نيران الثورة مع تطور وتنامي الأحداث في تلك المجتمعات..
وما ينبغي إدراكه من دروس قيمة ومهمة في تطورات أحداث الثورات العربية أنَّه ينبغي أن يعطى الرأي العام أهميته المحورية في استيعاب هموم وقضايا الناس.. هذا كمرحلة أولى لمعرفة الاتجاهات في إجمالها، ولكن الأهم من ذلك هو القراءة الداخلية للرأي العام غير المعلن، والذي تشير إليه دوامة الصمت كمجموع الآراء الشخصية للمواطنين تجاه موضوع معين، وعادة وليس بالضرورة أن يكون منطبقاً مع الاتجاهات والآراء المعلنة أمام الناس وفي وسائل الإعلام..
وينبغي أن تهتم الحكومات بشكل أكبر لما يُعرف بآراء الأغليبة الصامتة التي تصمت على شيء داخلها، ولا ترغب في مرحلة معينة من إظهار هذه الآراء خارجياً أمام الناس وأمام الرأي العام.. هذه الأغلبية هي التي تحركت بقوة إبان تطور أحداث الثورات العربية عندما سنحت الفرصة لها لإظهار تلك الآراء وما تبعها من تصرفات وسلوكيات تنم عن عدائية واضحة لأنظمة بلدانها..
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa