والقول بعبث الثقافة ليس من باب التشاؤم ولا من باب التجني، فهو واقع، بل يكاد يكون من المسلّمات ولا مجال لإنكاره أو التردد في قبوله، ومن الخير للمشاهد أن تدرك هذا وأن توطِّن النفوس عليه، فمعرفة الخطأ خطوة أولى في سبيل الحل، والقول في الماعيب لا يقف عند حد الشماتة، بل يتخطاها إلى التحرف أو التحيز:
التحرف لحلول تضيِّق الخناق على هذا العبث المستشري، وإن لم تكن هناك قدرة على التحرف فلا بد من الاعتزال أو التحيز إلى الطائفة المنصورة، واستبطان أدنى درجات إنكار المنكر، وهو الإنكار بالقلب.
وإذ لا يكون هناك أقدس من القرآن الكريم، فهو كلام الله الذي أنزله بلسان عربي مبين، فإن المفسرين قد اختلفوا وتعددت اتجاهاتهم وكثر انحرافهم واستشرى عبثهم، وظهرت مدارس ومذاهب واتجاهات لا حصر لها فكان تفسير الرواية والدراية والإشارة والتفسير البياني والأدبي والعلمي والصوفي والباطني. ولكل ملة ونحلة مفسرون، فالفقهاء والفلاسفة والنحاة واللغويون خاضوا مع الخائضين، ولما يزل القرآن مشروع مبادرات سليمة وأخرى سقيمة، وذلك شاهد على عبث الثقافة.
ولكي أضع القارئ أمام شواهد حيَّة تثبت أن هناك تزييفاً للوعي وتضليلاً متعمداً للفكر الإنساني أسوق ثلاث قضايا يراها الناس رؤية مناقضة تماماً لواقعها، ولقد تدخل بالتضليل المركب كما الجهل المركب، ومرد ذلك أننا دائماً نعتمد رؤية الآخرين ولا نكلّف أنفسنا النفاذ إلى ذات القضايا وقراءتها مجردة من أي تدخل فكري متآمر.
والشواهد الثلاثة موزعة بين الأدب والفلسفة والسياسة.
فعلى الصعيد الأدبي عرفنا الروائي الأكثر حضوراً وشيوعاً «نجيب محفوظ» من خلال ما كتب عنه، والقليل الأقل من تطوّع بقراءة بعض روايات واستكناه منطوياته ورؤاه، وبعد حصوله على جائزة «نوبل» انداحت دائرة الحديث عنه وتصنيمه، حتى لقد أصبح المساس به مساساً بكرامة الأمة، ولو قرئ بمعزل عن طوفان التحميد والتمجيد لبدت سوآته، ولنأخذ على سبيل المثال أشهر أعماله الروائية وهي التي مهدت الطريق إلى «نوبل» (أولاد حارتنا) لقد جمع فيها بين هبوط اللغة والفن والفكر، وفكرتها الإلحادية لم تكن من عندياته، ولكنها مسروقة من كتاب (الدجالون الثلاثة) للفيلسوف الفرنسي الملحد (بولنفيلييه ت1722). والدجالون الثلاثة هم: (موسى، وعيسى، ومحمد) عليهم صلوات الله وسلامه.
لقد اتّهمهم بالكذب والتزوير والدجل على أممهم، وهذه الأفكار هي التي تناولها «نجيب محفوظ» في روايته، ولأن الرأي العام يسمع ولا يقرأ، فقد تضخمت شخصية «نجيب محفوظ» وأصبح علماً في رأسه نار، وواجب النقاد المنصفين أن يقوِّموا الأعمال الروائية لأي مبدع روائي والأعمال الشعرية لأي مبدع شعري من خلال أبعادها اللغوية والفنية والفكرية فقد يكون المبدع متألقاً في فنه أو في لغته أو فيهما معاً، ولكنه مخفق في فكره أو في أخلاقه، ولقد يكون مخفقاً في لغته أو فنه أو فيهما معاً ولكنه متألق في فكره أو في أخلاقه، ومن ثمّ لا يجوز أن نجاري كل الأطراف، بل علينا أن نضع المبدع وإبداعه على حقيقته أمام القارئ، فالناقد الشريف بمنزلة القاضي الشريف وخيانة أحدهما في مستوى واحد فالقاضي يحكم بين خصمين والناقد يحكم بين مبدع وأمة، وقد يكون الضرر المترتب من حيدة الناقد أفدح ضرراً من حيدة القاضي، ومثلما أن شرف اللغط وحده لا يشفع لصاحبه فكذلك شرف المعنى. وعلى الصعيد الفلسفي نجد «الدادية» وهي تيار فلسفي ملأ أرجاء المشهد الفكري وتساقط في مستنقعه عدد كبير من مفكري العالم، وضج الفارغون في تصنيم رموزها وعدها مرحلة مفصلية في المشوار الفلسفي الحديث، وفكرتها العدمية والعبثية والغثائية، نشأت في (كَبَريه) تتجمع فيه حثالات السوقة والدهماء للسكر والعربدة. والمصطلح كلمة فرنسية تعني (حصان الأرجوحة) وقصة نشأتها تدل على شرود الذهن وضياع الهوية، وفكرة المجموعة معارضة فلسفة الفن القائم على الجماليات، فكلمة (داد) فيها ازدراء لكل القيم، وأبرز صفاتها: الانحلال والإباحية والفوضى والسلبية والعدمية والتخريبية، وحجتهم الواهية مباشرة الهدم لممارسة البناء من جديد كما في (الشيوعية) يقول أحد الدارسين بعد أن عدَّد رموز (الدادية): «وكل هؤلاء كانوا حثالة من الفنانين وزبالة من الفلسفة» ولقد حاول بعض المنتمين إليها في أمريكا إنقاذها وتحسين سمعتها، ولكنها تآكلت واضمحلت وقام على أنقاضها فلسفات متعاقبة كـ»السريالية» و»الوجودية» وهي فلسفات لا تقل في عبثيتها وغثائيتها عما كانت في «الدادية» ولقد لفت نظري وأنا أقرأ في تاريخ الفلسفات الحديثة أن رموزها ومنشئيها من اليهود. فهل يحال ذلك إلى المكيدة أم إلى الذكاء؟ أتمنى أن أجد متسعاً من الجهد والوقت لتقصي هذه الظاهرة الملفتة للنظر، وتقرير ما إذا كان ذلك مؤشر خبث في الفكر اليهودي وسعي لتدمير العالم المعادلليهودية أم أنه من تحديات الأقليات في العالم وإثبات الوجود ولما لم أجد دراسة من هذا النوع فإنني أعوّل على الأشداء من المثقفين الذين آتاهم الله بسطة في العلم والنشاط عسى أن يستبقوا الخيرات ويرشدوا أخاهم إلى مكامن المعلومات التي تسهم في تحرير مثل هذه القضايا المهمة في سياق الفكر اليهودي، وكم ترحَّمتُ على المفكر العربي الكبير «عبدالوهاب المسيري» حين قرأت له أحاديثه المستفيضة عن إشكاليات النفوذ والعبقرية والجريمة والخصوصية اليهودية في موسوعته «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» وهو بحق مفكر عميق تخصص في تعقّب اليهودية مثلما تخصص «إحسان إلهي ظهير» في تعقّب التاريخ الشيعي، ومثلما تعقّب صديقنا أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري الظاهرية مع الفارق بينهم. أما على المستوى السياسي فحدّث ولا حرج، لقد جسدت الثورات العسكرية العربية أبشع صور العبث والتسلط والاستبداد والاستعباد وإنتاج ثقافة الكذب والتزلّف والنفاق والاسترزاق.
ومن ذا الذي لم يتجرع غسلين الثورات الدموية ويصطلي بحرّها وإن لم يكن طرفاً فيها. لقد امتد ضررها إلى دول الجوار التي تدفع بالتي هي أحسن واضطرها إلى ركوب أهون الضررين، الأمر الذي فوَّت عليها فرصاً ذهبية كان يمكن أن يتحقق فيها ما كانت تحلم به شعوبها. ذلك أنهم مارسوا العبث ولم يعظموا شعائر الولاية، وها هم اليوم يتجرعون مرارة المطاردة. تلك هي شواهد عبث الثقافة وثقافة العبث. فهل يرعوي النخبويون ويلتمسون الطريق القاصد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولاسيما أن الشعوب العربية هبت لممارسة حقها المشروع في تقرير مصيرها. إن على النخب أن تقعد لهذه الاهتياجات كل مرصد عسى أن تعي الشعوب المضطربة خطورة الموقف وتباشر العودة إلى الحياة السوية حياة الانضباط والإنتاج.