عندما تكون في حرم الله أو تطل من شرفة عالية فترى جموع المصلين متجهين إلى الكعبة المشرفة متضرعين إلى الباري عزَّ وجلَّ وقلوبهم وجلى ترجو ما عند الله وتخشى عقابه، تحس بشعور إيماني عظيم، وتأمل في هذه الأمة خيراً، وإذا صدقت النيّة وأتبعت الإيمان بالعمل في العبادات والمعاملات. الحرم المكي حظي بتوسعات متتالية، كانت التوسعة الأخيرة التي وضع أساسها خادم الحرمين الشريفين - جزاه الله خيراً - على ساحة تقدر بنحو من أربعمائة ألف متر مربع، دلالة واضحة على أن المملكة العربية السعودية تجعل في إستراتيجياتها الإنفاقية خدمة الحرمين الشريفين في وقت الفاقة والغنى، وأن هذا الإيمان المطلق بهذه الخدمة الجليلة مستمر وقائم لتوفير أفضل الخدمات للحجاج والمعتمرين، وأيسر الأسباب وأسهلها لإقامة شعائر الله على هذه البقعة المباركة من أرض الله الواسعة.
إن هناك تسابقاً كبيراً بين عدد القاصدين للحرمين الشريفين، والخدمات التي تقدم لهم دون حساب للتكاليف المادية المترتبة على ذلك. وكانت الخدمات بفضل من الله ونعمه تساير أو تسبق التزايد في الأعداد الهائلة، وسيظل ذلك التسابق موجوداً حيث إن هذه الأمة الإسلامية تحرص على إقامة شعائرها، وحيث إن المملكة العربية السعودية تسابق الزمن في خدمة هذه الجموع الغفيرة من الزائرين للبيت العتيق.
لا أحد يمكنه أن يتخيل مستوى النظافة التي عليها الحرم المكي الشريف والحرم المدني مع وجود أعداد هائلة من مشارب شتّى وثقافات متعددة، بعض منها قد لا تعتبر النظافة شأناً كبيراً كما أنها لم تتعود على وضع بقايا ما تستهلكه من طعام ونحوه في أماكن مخصصة لذلك.
إن جهداً جباراً يقدم لهذه الجموع، وإن مثل ذلك الجهد يحتاج إلى مال وإدارة وصبر وحكمة، وهذا ما نراه في حرم الله ولله الحمد، فتعامل العاملين والقائمين على خدمة الناس في أوجها، وهذا ما لا يختلف عليه أحد، ولهذا فإن الجدل غير المحمود بين الجموع ومقدمي الخدمات يكاد يكون معدوماً. ومهما كانت أحجام التوسعات ونوعية الخدمات فإن على الزائرين الكثير من الواجبات وفي مقدمتها أولويات المعرفة، تلك المعرفة التي ستنير الطريق للزائر حتى ينال مناه، ويبلغ مقصده بتمامه ودون نقصان، مع عدم تكليف نفسه أكثر من طاقتها ومضايقة غيره، وذلك بالمعرفة والاطمئنان إلى أن حدود الحرم تتجاوز تلك المباني المقامة بالقرب من الكعبة الشرفة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وأن أجر المصلي في بقعة بعيدة من الكعبة المشرفة وفي حدود الحرم الواسعة تتساوى بالتمام والكمال مع أجر المصلي بجانب الكعبة المشرفة، فجميعهم في حرم الله ولهم ذلك الأجر المضاعف أضعافاً عديدة، وهذا من منّة الله على خلقه ورحمته بهم، ولهذا فإن ثقافة كهذه لا بد لها أن تزدهر في أفئدة الناس وفي مداركهم.
عندما يرى المسلم هذه الجموع الخاشعة الباكية من خشية الله، الراجية عفوه وغفرانه، والقادمة من بقاع شتّى، يستغرب ألا يكون لها شأن في تقديم أخلاق عملية في المعاملات الإنسانية والدنيوية تتناسب مع هذا الإيمان والزخم الإيماني العظيم، حتى تكون نموذجاً يحتذى من أصحاب الملل والنحل الأخرى، فهذا الإيمان العظيم يتوقع من صاحبه الصدق في المعاملات وعدم غمط الحق، وكف اليد عن أخذ مال الغير، وتحري الصدق، واللطف في التعامل، والحرص على حسن التدبير والعدل بين الناس، وترك الأحقاد، ونشر المحبة، والعمل الدؤوب، وفعل الخيرات، تجنب المنكرات، والسعي في إصلاح ذات البين، والرأفة بالناس، والجد في العمل، وغيرها من القيم والمفاهيم التي أمر بها الإسلام، وجعلها لباساً لهذا الزخم الإيماني العظيم.
نرجو من العلي القدير أن يقبل من هذه الجموع وأن يجعلها تربط إيمانها بعمل صادق مخلص لتكون خير أمة أخرجت للناس.