تتغير الفصول وتتبدل الأحوال.. قدرٌ يُكتب منذ أولِ لحظةٍ نعبر بها بوابة الحياة.. ومصيرٌعنوانُه في أول سطرٍ من كتابِ عمرِنا.. وبين طيات السطور حكايةُ.. عمر تفاصيلِها مزيجٌ من التناقضات لا يجمعها سوى خيط رفيع واهٍ ولكن تبقى لها مساحة حرة وواسعة للتأمل والتفكير. اليوم.. الجمعة.. وجمعة مباركة.. والليلة.. ليلة استثنائية.. ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان الفضيل أعاده الله علينا وعليكم بالصحة والعافية.. في هذا اليوم حررت نفسي من كل قيود الواقع المحيط بي.. وأعتقتها من سلاسل جبروت دوامة الركض خلف زينة الحياة الدنيا ومباهجها..
ولذتُ بالفرار بذاتي.. واستكنت في ركني المحبب إلى نفسي داخل حجرة من حجرات بيتي المتواضع أتلو أعذب كتاب.. كتاب الله عز وجل {القرآن الكريم}.. أتأمل كل آية وأستنبط العظة والعبرة منها.. استوقفتني آية كريمة يكاد قلبي أن يتوقف كلما تلوتها.. فرددت {كلُ نفسٍ ذائقة الموت} وفي لحظة..! فاجأني الصمت عن ذاتي واعتصرني ألم، فذرفت دمعة حزن، وبت أشعر بإزدواجية شعور تتملكني.. شعور الوعي الممتزج بشعور اللاوعي.. اللاوعي بكل ما يحيط بي ويدور حولي.. وشعورُ وعي بكل ما يدور داخل أعماق ذاتي فأنفث عندها زفرة الآهات المكبوتة في نفسي.. وتبقى (الآه) هي الصدى الحزين الشاكي لعتبة انتظارٍ غير مأمولة.. وفي حلقة الفراغ الصامت حولي.. استدعيت ذاتي الغارقة في طوفان ماضي الذكريات.. قلبت صفحة الأمس وتأملت صفحة اليوم وغصت فيها بإحساسي ونبضات قلبي.. أخذتني لحظة الشرود الفكري إلى البعيد البعيد..! لكن!! ثمة سؤال أيقظني من غفوة الشرود تلك! ترى كم من الأنفاس التي احتلت زوايا قلوبنا ونحتاجها لتعيش معنا.. غادرت من بوابة هذه الحياة الفانية رغماً عنا؟. في لحظة تغادر مواسم الفرح من نفوسنا.. ويرسو الحزن مرافئ ذواتنا.. وتصبح آلام الفقد موجعة لحد البكاء ونزف الدمع.. وقد نسقط في إغماءة للهروب من واقعٍ لابد منه.. لنستفيق على رتق ثياب البعد والفراق الأبدي بخيوط الذكرى، وعلى تمتمةٍ تنبع من أعماق ذواتنا تقول: وما البشر إلا حفنة ترابٍ ستبددها رياح الموت في يومٍ من الأيام.
بالأمس رحل أحبة.. غابت أسماء وأجساد عن مسرح الحياة.. لكن ذكراهم خالدة في القلوب.. وأعمالهم باقية يتحدث عنها الزمن والتاريخ (يوم الثامن من شهر ربيع الآخر عام 1432) كان يوماً فارقاً في حياتي... كان يوماً للوجع والحزن والفراق.. كان يوم رحلة والدي رحمه الله من بوابة الحياة الفانية لتأخذ مسارها في رحلة أبدية.. سقطت دمعتي يوم إعلان الرحيل.. دمعة الضعف والاستسلام والإيمان بقضاء الله وقدره، وغالبتني دموعي أكثر وأنا أحتضنه وأودعه الوداع الأخير أضع يدي على جبينه.. أتحسس رأسه.. أقبل يديه وقدميه.. وأدعو الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وجميع موتى المسلمين.. رحل أبي الحبيب ولكن تبقى رائحة ذكراه ممتزجة بأنفاسي.. تسري في عروقي وشراييني، رحل من ارتشفت من عينيه ماء الوصل، ومن حديثه ربيع الحرف، رحل من أسرف في تدليلي كثيراً فازددت كبرياءً واعتزازاً بنفسي.
أبي الحبيب: كم يحملني الشوق على بساط الحنين لسماع صوتك وهو يتلو آيات القرآن الكريم ويلهج بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار وفي كل لحظة وحين كما عودتنا وحرصت على أن يكون هذا هو ديدننا الذي نتبعه في حياتنا.
أبي: يا لروع قلبي كيف أنسى روضةً حضنت صبا عمري فرفَ مُنعما؟ كم أفخر بك يا أبي وأنت الذي اخترت لي أماً فكانت نعم الأم، ولحظة ولادتي وبداية عهدي بهذه الدنيا كانت كلمة (الله أكبر الله أكبر) هي أول كلمة تصدح بها في أذني وكان صوتك هو أول صوت أسمعه فطبعت تلك الكلمات في أول صفحة من صفحات ذاكرتي البيضاء وصارت حصناً منيعاً لي يحميني من كل آفات الدنيا.
أبي علمتني أن التواضع رفعة والكبر جهالة وتلوت علي {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، علمتني أن مفتاح جنتي تحت أقدام أمي، علمتني أن الله يحاسب بمثقال الذرة وتلوت عليّ {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
علمتني أن أشكر النعمة وأخشع في صلاتي وأعرض عن اللغو وتلوت علي {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون} جاهدت وكافحت من أجلي وأجل أخوتي، عشت يا أبي حياتك يتيماً..
فقدت والدك وأنت لم تتجاوز العشر سنين فسعيت بأسباب الدنيا لتوفر لقمة العيش لإخوتك ووالدتك.. عملت فراشاً ومراسلاً ولكن طموحك كان أقوى وأقوى فتعلمت في المدرسة التي تعمل بها وواصلت تعليمك وسارت بك الدنيا طولاً وعرضاً وتدرجت في مواقع العمل إلى أن تبوأت مركزك الأخير وكيلاً لوزارة التربية والتعليم (المعارف سابقاً) فكان عطاؤك بلا حدود.. وتفانيك وإخلاصك بلا حدود.. وحرصك والتزامك بلا حدود. عشت زاهداً في هذه الدنيا لا تنشغل بغير الله لأنك تعلم بأنها دنيا فانية سيخرج منها الإنسان كما دخل..
فقدت إحدى حبيبتيك في طفولتك وفقدت الأخرى بعد أن أديت الأمانة المنوطة بك أمانة العمل والمسؤولية فكنت الصابر المحتسب. خلال مرضك الذي تجاوز السنتين فقدت الإحساس والإدراك بمن حولك ولكن سبحان الذي لا إله إلا هو لم تفقد شيئاً واحداً ألا وهو ترديد آيات من القرآن الكريم وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ومنبع سعادة لي ولإخوتي رغم الحزن الذي نعيشه. كنت تنفث زفرة (الآه) عندما نتوقف عن تلاوة القرآن في أذنك وكأني بك تقول تابعوا لا تتوقفوا فهذا زادي في الآخرة لا تحرموني منه. أبي أنت تحت الثرى لكن ملامحك وبصماتك أتحسسها بيدي كلما مرت علي ذكراك. أدعوك ربي في هذا اليوم الفضيل وهذه الليلة المباركة أن تنور له قبره وتوسع مدخله وتؤنس وحشته وترحمه وجميع موتى المسلمين.