أعترف بأني أصبحت أشارك بعض الأصدقاء والزملاء شعور عدم الرغبة بالسفر إلى أوربا في السنوات الأخيرة؛ لكن أسبابي في ذلك تختلف عن أسبابهم، وخاصة ما يفضفض به أستاذي عبد العزيز المانع من عنصرية الأوربيين المتزايدة وطلباتهم غير المنطقية للحصول على تأشيرة شينجن التي تمنح المسافر فضاء للتحرك بين أغلب دول الاتحاد الأوربي. أما أسبابي فهي نزوات فكرية تعتريني عندما أحل بدول أوربا المتقدمة، وأرى ما أتمنى أن يكون في بلادنا، خاصة الأمور اليسيرة منها التي تحتاج إلى إرادة وقرار.
وسأكتفي بثلاثة أمثلة مما يذهب إليه طموحي البسيط، لئلا يظن المتكئون المبحلقون دائماً في أفق الشك بي الظنون: أولاً؛ قدمت اسمي وعنواني في ورقة عند مدخل مكتبة الجامعة، وإذا بي أحصل على بطاقة تعريف خلال عشر دقائق تتيح لي استعارة ما يصل إلى عشرين كتاباً آخذها معي إلى خارج المكتبة، وأطلب من خلالها أي عدد من الكتب أو المجلات العلمية، فتوفر في قاعات القراءة خلال ساعة، وإن لم يكن أي منها موجوداً في حينه تصلني رسالة على بريدي الإلكتروني بكون الكتاب أو المجلة أصبحا متوفرين. وهذه الخدمات ربما يظنها البعيدون عن العمل الأكاديمي شيئاً بسيطاً أو غير ذي قيمة، لكن زملائي الأكاديميين وطلبة الدراسات العليا يعرفون جيداً مدى أهمية السرعة في تلك الخدمات، وتوفير الوقت من خلالها.
ثانياً؛ عودة إلى الجو غير الأكاديمي، عندما تقف شاحنة لإنزال بعض حمولتها، وتحجز جزءاً من الطريق، تجد أنوار التنبيه العليا في الشاحنة، وكذلك على القطعة المعدنية التي تنزل على الإسفلت، لتنبه من لا يكون نظره موجهاً إلى أعلى الشاحنة، فيتفادى الخطر، وينتظر خلف الشاحنة بدلاً من إرباك الطريق. فهل يصعب إلزام المؤسسات التي تنقل البضائع في وسط المدن باستيراد مثل هذا النوع من الشاحنات المتوسطة، أم إن عدم وجود القوانين المرورية المساعدة على حسن التنظيم لا يجعل مخططو المدن وأصحاب القرار يفكرون في مثل تلك الأمور؟
ثالثاً؛ تختار فندقاً أو سكناً نائياً، فتعتريك بعض الشكوك بأنك لم تحسن الاختيار. فربما لن تستطيع الوصول إلى المدينة، أو الذهاب لبعض أغراضك متى تشاء؛ لكن تلك الشكوك تتبخر عندما تجد حافلة تسير في تلك المناطق بكل اتجاه، لتوصل من يريد الانتقال حيثما يريد. فلا يكاد يوجد خمسمائة متر مربعة دون أن تجد موقفاً؛ ذلك لأن المخططين يشعرون بأنهم مؤتمنون على إيصال أي صاحب منزل أو مصلحة أو إيصال البريد والهاتف إليه وأي من الخدمات الأخرى دون منة.
تذكرت صديقي الذي كان في كل طلعة برية يستلقي على ظهره، وينظر إلى السماء الملأى بالنجوم؛ فإذا مرت طائرة، تابعها بنظرة، ثم أصدر صوتاً استفزازياً مستخفاً بأحد ما، ويصاحبه عبارته التي أصبحت تتكرر كثيراً: والله الفاضين! نسأله: من هم الفاضين؟ ويبدأ في مسلسل السخرية: هذولا اللي صنعوا الطيارات، شاقين بأرواحهم .. وألا ذا اللي يصنعون الرولز رويس (للأمانة هو يسميه: الروز)؛ كل قطعة تصنع يدوياً، عشان بعدين يتمتع به حارس فريق ... اللي ما يعرف يقرأ ويكتب.
هل هي ثقافة، أم تربية، أم قدرة عقلية، أم قدر؟ تلك الطريقة في التفكير التي حالت بيننا وبين أن نحسن تقدير من يعمل شيئاً نافعاً على الأقل، بدلاً من التهكم، وقضاء أوقاتنا فقط في متابعة الملاسنات الفضائية أو المدونات والمنتديات التي ابتكر تقنيتها أولئك الفاضون، لنستمر في تحليل معايب الآخرين والتسكع التقني مثلما كنا على مقاهي النارجيلة أو على قارعة الطريق.