يقول المثل الصحراوي: عنز البدو طاحت في المريس، وإليكم الشرح بالعربية الفصحى. الماشية، سواء كانت من الماعز أو الضأن حين يحالفها الحظ التعيس فيشتريها حضري ويربيها بمواصفات الحضر الغذائية بمنزله، تنقلب سلسلتها الغذائية رأساً على عقب. ما كانت تحصل عليه عند صاحبها البدوي في الصحراء من الرمرمة والعسعسة بين الشجيرات والجذور وأعشاب الصحراء، وكانت تكد وتكدح من أجله أثناء المسراح من الفجر حتى غروب الشمس، سوف تجد له في مقامها الجديد بدائل أشهى وأحلى وألذ. سوف تجد البرسيم والتبن وبقايا الطعام، وأهم من ذلك سوف تستمتع من آن لآخر بمريسة التمر الطافحة بالنوى المنقوع جيدا في الماء القراح طول الليل حتى يصبح هشاً يسهل قرضه ومضغه وابتلاعه. سرعان ما تتربرب وتنتفخ العنزة أو الشاة تحت هذه الظروف الغذائية وتنتفخ أوداجها وأشداقها وتمتلأ ضروعها بالحليب. هي هكذا ولا شك صارت أكثر فخامة وضخامة وأكبر ضروعاً، لكنها في نفس الوقت أصبحت قصيرة النفس ثقيلة الخطى متهدلة الأذنين تغوص عيناها بين أشداقها وحواجبها. حدث تغيير مظهري كبير إذاً في العنز والشاة فصارت أكثر جاذبية ً لكنها فقدت الكثير من مواصفات الجودة النوعية مثل القدرة على الجري والتنطيط والثغاء بصوت عال والمناطحة بقوة عند الحاجة.
أعتقد أن ما حصل لعنز البدو عندما طاحت في مريسة الحضر حصل ما يشبهه للمواطن السعودي بسبب سنوات الطفرة. شخصياً لا أحب سنوات الطفرة، بل وأكرهها كرها شديدا وأتمنى لو أنها لم تمر على تاريخ هذه البلاد. تلك السنوات المزيفة بكل ما جلبته إلينا أحدثت انمساخاً بالغاً في شخصية سكان هذه الصحراء المشهورة عبر تاريخها القديم بالقناعة والاكتفاء بما تحصل عليه بالكد والكفاح والتعامل مع الطبيعة الصحراوية بشروطها القاسية والشحيحة. سنوات الطفرة قلبت المواصفات والمقاييس الاجتماعية التي تكونت عبر آلاف السنين وغيرت معايير وشروط الإحترام والتقدير بين الناس. الطفرة أوجدت مناخا خصبا للتكسب النفعي والتستر والغش في التعاملات وأضاعت الثقة المبنية على كلمة الشرف والالتزام الاجتماعي كعرف سائد، ولم يعد التمييز بين الحلال والحرام في الحصول على أسباب المعاش واضحاً لتداخل هذا بذاك.
الصفة الجامعة لكل هذه المساوئ في الشخصية الحديثة للمواطن هي الاتكالية ومحاولة الحصول على أكبر قدر من الميزات المعيشية بأقل قدر من المجهود والالتزام. لكن ماذا فعلت الطفرة لكي تحدث فينا كل هذه التغيرات السلبية؟. تلك السنوات القليلة من عصر الطفرة سولت للناس بأن الحصول على الأموال سهل ولا يحتاج إلى عرق وتعب وشقاء. حين تحصل على المال وأنت مرتاح في مكتب مكيَّف كموظف أو سمسار أو وكيل أو وسيط، تستطيع أن تترك الأعمال الشاقة للعمالة الرخيصة المجلوبة من الخارج. هذا ما حصل أثناء سنوات الطفرة، وفرة مالية وسهولة نسبية في الحصول عليها بدون المجهود الذي يجعلك تتمنى الفراش بعد صلاة العشاء. ثم أن الطفرة انتهت وولت لا أعادها الله، لكن التغيير الجديد في شخصية المواطن لم يتغير. ما زال المواطن ينتظر الوظيفة المكتبية عاطلا ً لعدة سنوات ولو براتب أقل ويحاول الحصول على بعض التحسينات المعيشية بالطرق الملتوية (ضمان، مساعدات، رشوة.. إلخ)، لكنه يتهرب تماماً من النزول إلى ميدان العمل المفتوح على فرص الكسب غير المحدود.
هذا بخصوص التغيرات التي أحدثتها الطفرة في أخلاقيات العمل والتعامل، لكن ماذا عن التغيرات البنيوية؟. هذه تجسدها الرخاوة العضلية وقصر الأنفاس وانتفاخ الأوداج والاكتناز الجسدي، تماما ً مثل ما حصل لعنز البدو عندما طاحت في مريسة الحضر. ماذا نستطيع أن نقول غير ذلك عن المواطن الذي يدفع المال لعامل الشارع لكي يبدل له عجلة السيارة المثقوبة، ويدفع للحمال لكي ينقل له صندوق الخضار إلى السيارة، أو يعود فراش المكتب على نزع البشت عن أكتافه وتعليقه على المشجب عند تشريفه إلى العمل.
عنز البدو أكسبتها الطفرة الغذائية مظهراً فخماً لكنها أفقدتها النفس العميق والقفز والتنطيط والجري والقدرة على مناطحة التيوس. كذلك المواطن سلبته الطفرة لياقته البدنية وصبره على العمل الميداني وأعطته الرخاوة والسكري وانسداد الشرايين وتيبس المفاصل.
لذلك أطالب بكل جدية بالقضاء على أسباب تهرب المواطن من خدمة نفسه بنفسه وتقيده بأخلاقيات العمل، كما أطالب بإبعاد وإخفاء مريسة التمر عن الماعز والشياه المتحضرة لكي يصبح لبنها أحلى ولحمها ألذ. باختصار، أطالب بالتفكير جدياً باستعادة المواصفات الأخلاقية والبنيوية لمواطن ما قبل الطفرة حين كان وضعه المادي والمعنوي يتناسب ارتفاعاً وانخفاضاً مع ما يقوم به من جهد عقلي وبدني وأخلاقي، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.