يلاحظ كثير من المراقبين أنه كلما ارتفعت أسعار السلع في الأسواق، وعلى وجه الخصوص أسعار المنتجات الغذائية، التي ارتفعت بأكثر من 300% في السنين القليلة الأخيرة، وكلما زاد تذمر المواطنين من انفلات عقال الأسعار وتدهور القيمة الشرائية للعملة المحلية المرتبطة بنوع من الزواج الكاثوليكي مع الدولار...
... فإنه لا أحد من المسئولين يتقدم ليفسر للناس سبب هذا الغلاء، ولا يوضح للمواطنين الرؤية المستقبلية للأجهزة المعنية حيال التطورات الاقتصادية المتوقعة، وإنما يكتفي المسئولون بالتقرير السنوي المنمق، في الشكل والمضمون، الذي يقدم لولاة الأمر في نهاية العام، وكأن المواطن خارج حسابات المسئولين. وقد أدى فقدان الصورة الواضحة لما يحدث في اقتصادنا إلى فقدان الثقة بين المواطن والتاجر، وإلى ارتباك كبير في منظومتنا الاقتصادية. وبعض التجار قد لا يكون مسئولاً عن التضخم الداهم، بل هم متضررون رئيسيون منه، بالرغم من أن قلة من التجار يستغلون التضخم الطبيعي لتضخيم أربحاهم بشكل غير طبيعي.
ومنذ بدأت أزمة التضخم في المملكة، وبدلاً عن الحديث عن معالجة تدني القوة الشرائية لرواتب المواطنين، ومعالجة التضخم المفتعل في قطاع العقارات، وفي رسوم الخدمات وغيرها، يسارع مسئولونا إلى دعم الشعير، حيث يتم دعم الشعير بشكل دائم ومتواصل، وقد تم دعم الشعير لأكثر من ثلاث مرات في عام واحد فقط. وتتوالى الأخبار والتصريحات بعد التصريحات حول مراقبة أسعار الشعير، وضرورة استقرار الشعير وكأنما الشعير هو مصدر التضخم، وهو كل ما يحتاجه المواطن. و قد أخذ بعض المواطنين يتندر بأنه قد يأتي يوم تصرف فيه بدلات غلاء شعير للمواطنين.
ومنذ وقت طويل والجميع يحاولون فك لغز ارتباط معيشتنا بالشعير، فلا جدال أن الشعير مهم، فهو طعام مهم لكثير من المخلوقات، والمواشي، وهو في المحصلة النهائية قابل للاستهلاك الآدمي إذا دعت الحاجة. ونسأل الله جل وعلا ألا يجعلنا في وضع ننافس فيه المواشي على الشعير. وبعد تفكير ملي في الإستراتيجية الذكية بعيدة النظر لدعم الشعير بدلاً من التصدي الحقيقي لأسباب الغلاء، تذكرت أنشودة صغيرة كان يرددها الصغار في أيامنا، يرددونها من قبيل الدعوة والتفاؤل، وتقول:
«يا مطره حطي حطي على قريعة بنت أختي بنت أختي جابت ولد، وسميناه عبدالصمد، والولد يبغي حليب، والحليب عند البقر، والبقر يبغي حشيش، والحشيش يبغي مطر، والمطر عند ربنا.
هنا بدأت تتضح الصورة: كيف أن دعم الشعير يشكل حلاً جذرياً للتضخم. فلربما أننا نحاول معالجة ارتفاع الأسعار على طريقة «يا مطره حطي حطي»، فندعم الشعير حتى نخفض علف المواشي، والدواجن، ثم يقوم المزارعون بحلب البقر، وتبييض الدجاج، وتفقيس البيض حتى يرخص البيض والدجاج واللحوم في السوق، وتكون ضمن القدرة الشرائية للمواطن. أي أن «ولد بنت أختي، في نهاية المطاف سيحصل على حليب، وبنت أختي على دجاج. سياسة بلا شك بعيدة النظر فالمواطن لا يفهم الاقتصاد، ولا يعرف السياسات النقدية، بل ما يهمه في نهاية المطاف هو الحليب، ولحم الحاشي، و الدجاج، والبيض الذي سيجلبه الشعير.
ومن حيث المبدأ فإن الدعم، أياً كان الدعم، أفضل من اللادعم، غير أن سياسات الدعم للمواد الأولية، وخاصة الأعلاف تصب في المقام الأول في مصلحة منتجين وتجار هذه الأعلاف الذين يستبقون الدعم برفع الأسعار. والعلاج لما نحن فيه من غلاء لا يقتصر على دعم المواد الأولية فقط. ولذا فنحن في حاجة إلى مراجعة جدوى هذا الدعم. فالدولة دعمت مؤخراً الأعلاف بخمسين في المئة من قيمتها، والأعلاف تشكل أكثر من60% من كلفة إنتاج الدواجن، و40% من كلفة إنتاج مشتقات الألبان، وأكثر من 60% من كلفة إنتاج المواشي، ورغم ذلك انخفضت أسعار الدواجن بخمسة في المئة فقط، مع أن المفترض أن تنزل قيمتها بما لا يقل عن ثلاثين في المئة. والألبان بقيت على أسعارها، أما المواشي فلا حياة لمن تنادي.
وهذا بدوره يطرح تساؤلات عن الحيثيات التي تم بناء عليها اتخاذ قرار دعم الأعلاف، وما إذا ما كان هناك تنسيق مع التجار والمنتجين للاتفاق حول التخفيض السعري المحدد الذي ستحصل عليه الوزارة مقابل هذا الدعم على شكل تخفيض في أسعار السلع الغذائية والمواشي المعتمدة على الدعم. ولكننا اتبعنا سياسات الدعم لفترة طويلة فعلياً، وسياسات الدعم لا تجابه زلازل المشاكل الاقتصادية والنقدية الكلية، بل تعالج هزاتها الارتدادية، وهي لا تخرج عن كونها ردود أفعال لهذه الهزات.
كما أن في قلب مثل هذه الفلسفة المالية والنقدية المبنية على دعم الغذاء فقط حكمة تقول بأنه «بالخبز وحده يعيش الإنسان»، وأن المواطن لا يحتاج لأكثر من أن يأكل، ويشرب، ويعمل، وينام. وهو لا يحتاج للترفيه، أو السفر، أو التعليم الجيد، أو القراءة، أو ممارسة هوايات أخرى، ولذلك فدعم الشعير، ودعم الرز، ودعم المزارعين، وتشجيع التجار إلى آخر ذلك من الإجراءات التي تراكمت وتتراكم والهدف النهائي منها هو تجنب التطرق للمشاكل الاقتصادية والنقدية، الحقيقية، التي تمس حياة المواطن بكافة جوانبها لدينا مثل انخفاض قيمة الريال، أو عدم تناسب زيادة الرواتب مع نسب التضخم، أو الاحتكار بمختلف أشكاله التجاري، والعقاري والخدماتي.
ونحن نتمنى أن يصب الدعم على (قريعة) المواطن مباشرة، ليس على شكل بدلات مبعثرة تصرف بآليات معقدة، بل بدعم مباشر لمرتبات المواطنين، أو حيث يمكن أن تنظر الدولة في دفع 14 أربعة عشر راتبا سنويا للموظفين، بإضافة راتبين: راتب للعيد، وراتب للإجازة الصيفية تكون جزءاً من الراتب الأساسي، كما تفعل كثير من الدول، بحيث يستطيع المواطن الاستفادة من إجازته، وتخفف عليه أعباء العيد وبدء العام الدراسي، كما يستفيد من هذه الزيادة الموظفون بعد تقاعدهم، فالأسعار لا تخفض للمتقاعدين بعد التقاعد. والمتقاعدون فئة خدمت المواطن في شبابها، فلا أقل من أن تعيش بكرامة في مشيبها.
كما ونتمنى أن يوفر علينا بعض الخبراء الاقتصاديين نصائحهم، وانتقاداتهم لنا باستمرار بأننا لا نعرف ما نستهلك، أو كيف نستهلك، فالمواطن السعودي على قدر كبير من التعليم والدراية، ويعرف تماماً كيف يتدبر أمور استهلاكه.
وليس صحيحاً أن رفع الرواتب يتسبب في رفع الأسعار، فإننا جميعاً على ثقة تامة بأن مسئولينا يعرفون الأسباب الحقيقية لارتفاع الأسعار، التي لا دخل للمواطن بها. فسياساتنا النقدية والمالية جعلتنا نجلب التضخم بجميع أشكاله وأنواعه من الخارج والداخل، ويبدو أن التضخم الخارجي هو المطر الوحيد الذي عرف طريقه مباشرة إلى «قريعة» المواطن، بينما بقيت بعض سياساتنا تخطئها. فلعله تتم إعادة النظر في سياسات الدعم لدينا من الدعم المباشر كدعم المشاريع الفلكية، والدعم غير المباشر كدعم الشعير والرز، ويتجه الدعم للمواطن مباشرة.
latifmohammed@hotmail.com