** هذه قنبلة ذرية هشمت الطغيان الصهيوني، وخسفت بتقنيته وعُدَّته إلى طبقة الانصهار في كرتنا الأرضية.. قنبلة أطلقها الشاعر محمود درويش - وما أكثر قنابله -: قال:
[آن أن تنصرفوا.
فلنا في أرضنا ما نعمل.
ولنا الماضي هنا.
ولنا صوت الحياة الأول.
ولنا الحاضر والحاضر والمستقبل.
ولنا الدنيا هنا والآخرة.
فاخرجوا من أرضنا.
من برِّنا من بحرنا.
من قمحنا من ملحنا من جرحنا.
من كل شيئ واخرجوا.
من ذكريات الذاكرة.
أيها المارون بين الكلمات العابرة.
... أنا لا أحب الذين أدافع عنهم كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم] !!!.
ويُقيِّض الله لهذه القنابل أمثال غادة السمَّان يُحلِّلون مدى بُعْدِ شظاياها، ويقتصدون في تصوير فاعليَّتِها مكتفين بأنها ألقتْ كيان العدو في غياهب الجحيم؛ ومن ثم تُضيف إلى نقدنا الأدبي جواهرَ من لغو الحواة(1).
** * أما هرتزل فيبتهج بأنه لم يخسر شيئاً لو هُزِم؛ لأنه لم يكن يملك أرضَ فلسطين أصلاً.. قال: ((فالذين ما ملكوا شيئاً لم يخسروا أي شيئ، بل لم يكن أمامهم سوى الربح، وقد ربحوا بالفعل: فُرَصِ العمل، ووسائل العيش، والرخاء والازدهار)(2)، وهذا لَعينٌ آخر يقول: ((كل شيئ موجود في سبيل خلق عالم أفضل. أتعرف أيها الإنسان الحي من يستطيع رسم معالم الطريق؟.. أنتم!.. أنتم اليهود ليس لديكم ما تخسرونه.. باستطاعتكم بناء البلد التجريبي [لاحظوا التجريبي] الأوحد في العالم هناك حيث كنا، وخلق أرض قديمة جديدة (Altneuland) على التراب القديم))(3).. وهذا حلم آخر لشاعرهم (ربي بنيامين) يَعِدُ بأُخُوَّةٍ صادقةٍ بين الساميِّين من العرب والعبريِّين؛ فصدِّقوه ولا تعبؤوا بالجدار العازل، والتصفيات الجسدية يومياً، والجدِّ في الزراعة لاستقبال أكبر عددٍ من شُذَّاذ الآفاق.. قال:
[ستأتي أيام يكون فيها (أي العربي) كواحد منكم.
ولن يُعرف أنه دخيل.
ستعطيه أبناءك وتأخذ من أبنائه أزواجاً.
ويسيل دم أبطاله في دمك ويكثر (4).
ويندمج الجنسان في جنسٍ واحد.
نحن أخوة فكل شعوب الأرض بِضْعُ أُسر.
وإذا لم يحدث ذلك الآن فلن يحدث أبداً](5).
* قال أبو عبدالرحمن: ما أبعد البَوْن بين الأدب الصهيوني والأدب القومي أو الوطني إذا تجرَّد من هُوِيَّة العربي المسلم.
** أسمع وأرى وأقرأ في وسائل الإعلام مثقفين من أبناء أمتي يُبدون ابتهاجَهم بمنجزات الربيع العربي، وليسوا بمهضومي الحظ من الابتهاج بإطلاق؛ فقد يتحقَّق ذلك لقطرٍ واحدٍ كافَح بالسلاح، ويُرْتَقَب أن تعود له هُوِيَّتُه التاريخيَّة؛ فهذا أمرٌ مبهجٌ وإن كان الثمن فادحاً جداً في الأرواح والأموال والمنشآت مع عقودٍ من الزمن تكون للترميم وتنشئة الكوادر الوطنية.. وهناك قطرٌ بُلي بما هو أعنف من ابتلاء القطر السابق: ظلماً في المعيشة، وتغريباً عن الدين، وطرداً وملاحقةً لكل ذي همٍّ وطنيٍّ دينيٍّ، ورشاوى باهظة، بل يُلزم الفقير شراءَ نسخة من كتاب إعلامي بثلاثة أضعاف قيمته وليس له قيمةٌ في المضمون، وسرقات من القادم ولو كان تافهاً كساعة متواضعة وقلم حبر جاف وبضعة نقود وَخِلَقِ جاكيت، ومصادرة كتاب إسلامي مع العقوبة بالسجن والتغريب، ولا تزال المواجهة بالصدور العارية والهتافات الصارخة.. والثمن أشدُّ فداحةً، والمكاسب أقلُّ؛ لأنه بعد طول الأمد لحريقٍ يأكل الرطب واليابس سيكون شيئ من التوسعة والأمن من الناحية الدينية والرزق وصيانته، ولكن مُحالٌ أن يحكم الأمةَ هُوِيَّتُها التاريخيَّة، ومُحالٌ أن يفلتوا من عُنق الزجاجة أمام سلامِ إسرائيلَ الجارة المغتَصِبة، وليس ذلك في برنامج حدود 1967م، بل في أكدارٍ تتجاوز ذلك إن سُلِّم البقاء إلى أمدٍ على حدود 67.. ومع هذه الفوادح فوادحُ مجاعاتٍ وأوبئةٍ لن تتعدَّى ديارَ العرب والمسلمين، وفوادحُ ماليَّة تُرهق ميزانيات الأشقاء مع ثِقَلِ حِمْلهم.
** * إذا باحثْتَ أحدهم مشافهةً أجابك بأن العالم المتقدم تجاوز القمر، ويرتاد المِرِّيخ.. والأمر معه سيثمر - إن صدقت النية - بما أسلفته من تحقيقٍ علميٍّ عن تاريخنا المعاصر، وأنه مسيَّرٌ غير مخيِّر مِن قِبل المتنفِّذين أعداءِ هُوِيَّته، ويأتي حديثٌ عن ارتياد المِرِّيخ.. وإن خاطبتَ قلبه وجدتَ فراغاً دينياً مُرَوِّعاً؛ على الرغم من أن براهين الدين علميَّة، وبراهين ثماره وبراهين عُقْبى مخالفته التي تَرْخَص بها النفس والدنيا كلها براهينُ علميَّة من الخارج، وتجربةٌ نفسيةٌ في الداخل.
* ما يتعلق بالقمر والمرِّيخ فأمرهما محلولٌ باللغة التي يؤمنون به؛ فالعلم المادِّيُّ الجبَّار لم يدَّع أنه خَلَقَ القمر والمرِّيخ، ولم يدَّع أنه خلق ما أنجز به مصنوعاته ومخترعاته، بل هو مُقِرٌّ بأنه صنع من مادَّةٍ موجودةٍ قبل وجود البشر، واستنبط منها ما يقرب من عشرين عنصراً ومئة عنصرٍ كيميائيٍّ، ومُقِرٌّ بأنه يسعى للاكتشاف بعناءٍ وتفنى أجيالٌ في بداية الطريق، وعِلْمُهم هداهم بإذن الله إلى أن الكون في تصرُّف وإرادة خالقٍ واحدٍ لا منازع له، ولو وُجِد منازع لاضْطرب نظام الكون.. ولكنَّ تقديم العاجل، والعبودية لشهوات النفس كِلَا ذَيْنك حَرَمَاهم من العبودية لخالق الكون سبحانه وتعالى بما شرع.
** أَقْسَمَ الله بالأفلاك وبالسماء والأرض والنفس التي سوَّاها، وأَقْسَمَ بتصرُّفه في الأزمنة؛ فأقسم بالضحى وبالفجر والليل والنهار.. وكل ما أقسم الله به - والمخلوقون مُحرَّم عليهم الإقسام بالمخلوقات - جامعٌ بين العظمة والقدرة وَدِقَّةِ اللُّطْفِ والحكمة التي مِن ضمنها منافع المخلوقات، والبراهين العلميَّة قاطعة بأن الله الخالق الأكبر الأعظم، والقَسَمُ تعظيمٌ لتأكيد الخبر أو ما ينطوي عليه المُقْسَمُ به من المعاني، والمقسِم هو الخالق الأعظم الأعلمُ بما خلق؛ فالقسم إذن نداءٌ للعقل ليتفكَّر، وَلِتَقوم عليه حجَّةُ الله إن لم يصدق مع عقله؛ فاستكبر بدافع الهوى والشهوات والحميَّة؛ فهو يستعلي بكل ذلك؛ فهذا هو معنى الاستكبار.. ومَن يُردِّد (العالم وصلوا إلى القمر ويرتادون المريخ) يقال له: ثم ماذا؟!.. إن ما يُحَصِّلونه من ظاهر العلم إذا كان وقوعُ ذلك العلمِ يقينياً يزيدهم برهاناً بأن الذي خلق القمر والمريخ هو الذي خلقهم ووهبهم ما علموا مما أذن الله بعلمه بعد رحمة المهد والحضانة وعِظَمِ المعاناة وطول التربية، ثم يعتري ذلك توقُّف العلم، أو الالتباس فيه، أو نسيانه بما قدَّره الله في وضعية الحياة من فقد القدرات من مرضٍ أو فقدِ ذاكرةٍ أو جنونٍ أو رَدٍّ إلى أرذل العمر.. قال ربنا سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{67} هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كــُن فَيَكُونُ{68} [سورة غافر/ 67- 68]، ويزيدهم برهاناً على أن ما حصَّلوه من علم الظواهر زيادةٌ في خَلق الله إذْ بلَّغهم هذه المرتبة من العلم، وأنهم يعلمون بعد جهلٍ، ولا يملكون التغيير وخرق الناموس؛ فليس بيدهم أن يحجبوا الشمس والقمر عن أرجاء المعمورة فتكون ليلاً دامساً، ولا يملكون حجب الشمس فتكون المعمورة ليلاً بنجومه وتدرُّج قمره من الإهلال إلى التَّمام إلى السِّرار إلى الإهلال.. إلخ.. ولا يملكون أن يصرفوا الشمس بأن لا تغيب عن المعمورة لحظة؛ فتكون نهاراً دائماً يتدرَّج من الشرق ولا يعتريه غروب، بل يلتحم اصفرار الشمس بشروقها بلا فاصل.. وبرهان ذلك جَليٌّ لا يتززح إلى قيام الساعة عندما يأذن الله سبحانه وتعالى بخروج الشمس من مغربها، وهو برهانٌ ألهمه الله خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام.. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة/ 258].. وهذا العلم الاستطلاعي محدودٌ ولو بلغ جهدُ العلماء كلَّ جهود الجنِّ والإنس منذ خلقوا؛ وهذا يعني أن العلم مهما بلغ سيظلُّ حسيراً بتحدِّي الله تعالى في قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [سورة الرحمن/ 33]، وقد أسلفتُ كثيراً في بحوثي أن الآية دالَّةٌ بيقينٍ على نفي القرآن تخطِّي الثقلين من الجنِّ والإنس أقطارَ السموات، ويُضم إلى ذلك دلالة سورة الجنِّ، وأن التحدي في الدنيا، وأن السلطان إذن لله سبحانه وتعالى؛ لأن السماوات مسقوفة، وما دونها كواكب مكشوفة، وأن حمل {بِسُلْطَانٍ} على العلم غير صحيح؛ فمحالٌ إلى الأبد أن ينفذ علمٌ مادِّيٌّ من الثقلين يخترق أدنى سماءٍ مسقوفة سمكها لا يعلم قدره إلا خالقها، وهي مقدَّرة شرعاً بمئات الأعوام، وحُرَّاسها ملائكة شداد غلاظ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ والله فوق ذلك.. ومن محدوديَّة العلم المادِّيِّ الاستطلاعيِّ أنهم لا يقدرون على الدُّنُوِّ من النيِّرات المحرقة وأعظمها الشمس، وأن العلم الاستطلاعي لَمْسٌ باليد بكمياتٍ من الأوكسجين يعيشون بها مدَّة الاستطلاع؛ فمن المحال أن يكون ذلك ريادة استطلاع (كما في خيالات الأدبيات الشعبية من العلم المادِّي) تحلم بمنازل في الكواكب العليا غير المسقوفة، وبرهان هذه الإحالة أن خبر خالق الأفلاك العليم بها أصدق من أحلام مخلوقين يحاولون اكتشاف بعض ظواهرها، والخبر من خالق الكون جل جلاله، والقضاءُ قضاؤه الكوني الحتمي المبلَّغُ بخبره الشرعي.. قــال تعالى عــن الأرض: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [سورة طه/ 55]؛ فلا سكن لنفي دنيانا غير هذه الأرض، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة غافر/ 64].. وبالواقع الحسي فالعجز منهم مسبق بأنهم لن يستطيعوا عمارة أيِّ كوكبٍ مشتعلٍ نيِّرٍ غير مستنيرٍ بغيره فالحلم بملامسته كالحلم العنادي لدى فرعون إذ قال قبحه الله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ{36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ{37} [سورة غافر/ 36 - 37].. ثم إن لهذه الكواكب نيِّرها ومستنيرها وظائفَ، ويقوم علها ملائكة مكلَّفون: لها وظائف في هذا الكون، ولها منافع تقوم عليها حياة أهل الأرض؛ فمحال أن يطرأ عليها من قِبل الخلق ما يُخِلُّ بوظيفتها.. وليس ما قلته في نصاب (الورق الصفر) التي هي رمز التخلُّف والغباء لدى المستكبرين بخيالات مُضَلِّليهم، بل هو نور الله الذي خلق الكون.. شعَّ علينا نوره من وحيه المعصوم، وهو نور العقل بالمشاهدة الحسية، وهو اعتراف ذوي العلم المادِّيِّ، وكل من جاهر بالكفر منذ بداية العلم المادِّيِّ لم يدَّع أن أحداً خلق مادَّةً غير موجودة، بل لم يَدَّعيها كافرٌ قطُّ، وأهل العلم المادِّيِّ مجمعون على أن كل عنصرٍ كيميائيٍّ تكوَّن تأليفاً واستنباطاً من مَوادَّ موجودةٍ قبل وجود البشر، وقد قال خالق الكون سبحانه وتعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [سورة لقمان/ 11].. وهذه الأفلاك المكشوفة وما بينها وما تحتها من رياحٍ وسحبٍ مما نعانقه (وأقرب شيئ لنا السحب، ووسائل مواصلات العلم الحديث تعلو فوق جهام الغيم، وتعانق الريح): لم تبلغ بهذه الملامسة أن يدفعوا مسار الرياح، وأن يدفعوا خطرها إذا أذن الله منها بما هو فوق العادة قبل وقوعها، وإذا وقع ما هو فوق العادة من ماءٍ منهمرٍ أغرق الله به قوم نوح، أو زيادة نَفَسٍ من الريح أهلك الله بها عاداً التي لم يخلق مثلها في البلاد - وها هي مساكنهم في جزيرتنا -: فلن يستطيعوا حماية أنفسهم.. إنما جهد العلم الحديث إن كان مزاد من الريح والصيِّب إنذراً لا استئصالاً: أن تلتمس الأشتاتُ المأوى في الخيام، والنبشَ عن الحطام بعد السكون بما أذن الله لهم به من العلم والممارسة لتعايش البشر مع الطبيعة.. بل العلم يتنبَّأ بكوارث قبل وقوعها وهو لا يستطيع لا ردَّها ولا الاحتماء عنها، وقدر الله لا مردَّ له، والله غالبٌ على أمره؛ إذن إقسام ربنا جلَّ جلاله بعظمة شيئ من مخلوقاته تذكيرٌ للعقل بعظمة الخالق، وأن تذكيره تذكير الأعلم بمخلوقاته، وإظهارٌ للنعمة بخلق الشمس والقمر وتعاقب الليل والنهار، وتَحَدِّ لكل غرور بأن الله إذا أراد بقومٍ سوءاً جزاءً لهم أصابهم مما هو منفعة لهم بما زاد عن الحاجة كالنجوم الهادية في ظلمات البر والبحر التي ترمي بالشهب، وقل مثل ذلك عن رياح الرحمة التي يجعلها ربي ريح عذاب.. وقل أكثر من ذلك عن الصيِّب من السحاب القريبة منا إذا كانت مطر هدمٍ وغرق، وههنا يتلاشى التهوين من شأن السحب - وعليها وعلى البروق والرعد والصواعق ملائكةٌ موكلون بها - بأنها بخار البحر، وذلك حقٌ بدلالة الحس في العلم الحديث، وبالمعتقد القديم كما قال الشاعر:
كالبحر يُمطره السحابُ وما له
فضلٌ عليه لأنه من مائه
وذلك أدنى تحدٍّ لغُرُور المستكبرين؛ فالله يعذب ويستأصل بالجراد والقمَّل والضفادع وجند من الحشرات والجراثيم هي معنا وبين أيدينا وتحت لمسنا؛ وما ذلك برادٍّ ولا حامٍ من خطرها إذا جعلها الله جند عذاب.
*** البراهين العلمية داحضةٌ الباطلَ، مُظهرةٌ الحقَّ، وهي الوعظ الحقيقيُّ للقلوب التي تُلجئ استقرار القلب إلى يقينٍ وسكينة، وتكشف لدى الفرد نفسِه قلَقَ قلبه واضطرابه إذا عاند وتمحَّل، ولي في وعظ القلوب بالبراهين العلمية محاولات أسلفت شيئاً منها، وأذكر ههنا تجربةً نفسيةً عشتها ويستطيع غيري أن يجرب ثم يزن ما لديه من سكونٍ وطمأنينةٍ أو قلقٍ واضطرابٍ، أو عنادٍ وإصرارٍ على معتقدٍ لم تؤمن به أعماق النفس، ومثل هذه التجربة خير مُعين على سكون القلب أمام الأزمات المُروِّعة كالربيع العربي.. وتجربتي بوسيلةٍ ساذَجَة، ولكنَّ عبرتَها دامغةٌ داحضةٌ كلَّ عنادٍ وغرورٍ.. ليجرِّب كل مؤمن توقيت الزمن الذي يستيقظ فيه لصلاة الفجر أو قُبَيْلَها في ليالي القيظ القصيرة التي قد لا تتجاوز الراحة فيها ثلاثَ ساعاتٍ لمن أراد أن يدرك صلاة الفجر أو يشتغل قُبَيْلها بعبادة، وليكن التوقيت بساعة منبِّهة شديدة الصريخ (ساعة خَرَّاش)، وليضعها عند رأسه مباشرة.. إن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، ثم يستقرُّ قلبه على الأنس والرجاء؛ ففي ليالي القيظ التي أسلفتها قد لا يحصل له النوم إلا ثلاث ساعات على أكثر تقدير، ثم ترنُّ الساعة بصوتها الجهوري المزعج ذي الصلصة وهو في سبات النوم وألذِّه؛ فيصحو ويتربَّع على مرقده منصرم القلب يستحضر ورده مثل: ((لا إله إلا الله وحد لا شريك له اللهم اغفر لي)) وتلاوةَ الفاتحة وآية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوَّذتين مرةً أو ثلاثاً.. وفي أثناء ورده يصرم قلبَه الصورةُ المصغَّرة للصاخَّة الطامة عند بعثرة ما في القبور، وقيام الناس من قبورهم مستجيبين بحمد ربهم يطيرون كالفراش المبثوث إلى الأرض الجديدة التي أُعِدَّت لهم للعرض على ربهم، وذلك هو يوم الفزع الأكبر، وهي أرض مستوية كخبز الحُوَّارَى لا وادي فيها ولا جبل، ولم يُعْصَ الله فيها قط.. هذا المستقبل يقين قلب بالبراهين العلمية على الرُّغم من منعطفات الحياة، وهذا الفزع المُصَغَّر من يوم الفزع الأكبر الذي يصرم القلب يأتي بعد نوم على طُهْر وورد كثير، وأثناء وِرده بعد النوم يصفِّق قلبُه يرجو من ربه أن يُؤَمِّنه يوم الفزع الأكبر، وأن يقيه عذاب القبر، وأن يجيره من عذاب النار بدءاً، وأن يدخله ربه الجنة بدءاً، ولكن الخناس الوسواس يستعرض له شريطاً سينمائياً مرئياً من قبائح أعماله في منعطفات حياته؛ ليؤيِّسه من رحمة ربه؛ فما يُتِمُّ ورده إلا وقد استقرتسكينة قلبه، وتذكر وعد ربه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة الزمر/ 53]؛ فيجرُّ نَفْسَه بنصف نشاط، ثم يحسن الوضوء، ويرفع رأسه إلى السماء تالياً آخر سورة آل عمران ابتداء من قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ [سورة آل عمران/ 190] إلى قوله تعالى إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [سورة آل عمران/ 194]، ويتفاعل مع الآيات بالتجاوب معها فيذكر الله عند قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً [سورة آل عمران/ 191]، ويحسن التفكُّر، ويعلن الإيمان بلسانه وقلبه، ويدعو عند مواضع الدعاء ويستغفر ويسبح.. إلخ عند مواضع ذلك، ثم يصلي وِتْره إن قام متأخراً، ويصلي ما تيسّر إن قام مبكراً، ثم يخطو إلى المسجد متجاوباً مع المؤذن، مردداً دعاء الخروج من البيت، مستجيراً بالله من النار ثلاثاً أو سبعاً، سائلاً ربه الجنة كذلك، طامعاً بالفردوس الأعلى، ثم يقرأ الدعائين النفيسين غير مسرع الخطوات: الأول: ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت: أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))؛ ففي البخاري: مَن قالها موقناً بها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، وكذلك إذا أصبح.. وكل دعاء نفيس جامع من الأفضل تكراره ثلاثاً.. والدعاء الثاني: ((اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، ربَّ كل شيئ ومليكه: أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشَرَكه [الأصح فتح الراء]، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجُرَّه إلى مسلم)).. فإن اتسع الوقت دعا دعاء التثبيت ((اللهم يا مقلب القلوب))، وأدعية الهداية والإعانة مثل: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، والأدعية الموظفة الصحيحة الجامعة كثيرة، ومن أراد الله به خيراً استوعب أكثرها؛ فإذا رجع من مسجده إلى بيته فالأفضل أن يشتغل بالتسبيح.. وههنا حقيقة أُراهِن عليها أنه لن يعود إلى بيته إلا وقد أفعمه الله نشاطاً كأنه نائم عشر ساعات، ولكن عليه أن لا يستسلم لهذا النشاط، ويغرق فيما هو فيه من قراءة أو كتابة، فيدركه الظهر؛ ومن ثم يكون مرْهقاً، بل يتعلل بالتلاوة، وبالقراءة والكتابة إلى الشروق، ثم يقطع سلسلة أفكاره، ويحسن الوضوء، ويصلي ما تيسر؛ فإن تكاسل صلى ركعتين يطيل فيهما حسب القدرة، ويكثر الدعاء في سجوده.. على أن الصلاة حين تَرْمض الفِصال قبل قائمة الظهيرة ذات فضلٍ كبيرٍ كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو مسهر في جزئه ورواه غيره، ثم ينام على طُهْر، ويستوعب الورد، ويقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له لهُ الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيئ قدير)) مئة مرة يحصي بأصابع يمناه عشراً، ثم يعقد خنصره في اليد اليسرى، ثم يعود يعدُّ باليمنى عشراً، ثم يعقد بنصره في اليسرى؛ فقبض أصابع اليسرى خمساً تعني خمسين، وإفرادها خمساً تعني خمسين فذلك مئة.. والأغلب أن يأخذه النوم خلال ورده، وعند القلق يقرأ الورد الموظَّف لذلك، ويقرأ آيات السكينة، ومرَّاتٍ تلتبس عليَّ الآيات في السكينة؛ فأدعو بدعاء أقوله عند الحاجة غير مأثور شرعاً بنصه، ولكنه صحيح المعنى من غير اعتداء، وهو: ((اللهم أنزل علينا السكينة في أهلنا وولدنا ومالنا وسكننا.. اللهم ادفع وامنع وارفع عين كل حاسد، وشر وكيد كل شيطان وساحر))، ومن فعل ذلك قام نشيطاً قبل الساعة التي أرسى عليها العقرب والمنبِّه، وقضى يومه إلى وقت نومه بنشاط وبركة.
* قال أبو عبدالرحمن: إن شك أحد في صدق تلك التجربة فليجرب ذلك بالشروط التي أسلفتها؛ وحينئذ سأغلبه في الرِّهان.
** هذا عن تجربة اجتمع فيها يقين البرهان، وطمأنينة القلب، وإحكام السلوك بالمجاهدة؛ فإذا تخلَّف الأخير فلا يمكن أن يكون هذا التخلف بإطلاق؛ لأن يقين البراهين وطمأنينة النفس أعظم مصارعٍ للهوى والشيطان، ولكن يكون في السلوك نقصٌ كبيرٌ بظلم النفس في ترك واجب كتأخير الصلاة عن وقتها بإطلاق، أو عن وقتها المضيَّق.. وبظلمٍ للنفس في اتباع بعض الشهوات؛ فإن مات مصرَّاً على كبيرة أو كبائر فهذا يغلب من نصوص الوعيد الخوف عليه وإن لم يكن من المخلَّدين في النار، وما جَلِد على النار بجليد.. أي لا يكون جليداً على النار إن كان جَلِداً في دنياه؛ فإن سلم من الكبائر فالخوف عليه أيضاً باقٍ للتساهل في الواجبات.. فإن رحمه ربه بإنساءٍ في الأجل فالمشاهدة والتجربة دلَّت على أن يقين عقله وطمأنينةَ قلبه وظُلْمَهُ وتقصيرَه: كل ذلك يجره إلى الإحسان واللجوء إلى الدعاء رجاءً وخوفاً؛ وذلك من أقوى الأسباب لحسن الخاتمة بإذن الله.
*** قال أبو عبدالرحمن: كلنا ذلك الرجل في ظلم النفس، ولكنْ مَن نسأ الله في أجله، وأعمل الحوار مع عقله ووجدانه (لأن هذا الحوار ينتج البراهين العلمية من الأنفس كما ينتج العقل البراهين العلمية من الآفاق): فإنه سيرصد في منعطفات حياته أسباب ظُلمةِ وجهه إذا أطلَّ على المرآة، وسيعادل بين لذة المعصية العابرة وأَلَمِها الأطول، والعكس بالعكس صحيح من حيث يستذكر لذائذ أفاويق التجلِّي في العمل الصالح من منعطفات الحياة.. وسيعادل بين ضيق صدره، وبرمه بالناس والحياة، ووحشته من الصلحاء أهل الخير، وصلفه، وغروره بما عنده من علمٍ أو فكرٍ يستعلي به على الآخرين.. سيعادل ذلك بساعات السرور والبهجة وقوة القلب في مدة الإنابة.. كل هذه ممارسات استذكروها، وحالات جرَّبوها.. أيها الأحباب: إنني لا أعظ بِرُخصٍ، ولا أعظ من فراغ تجربة، ولا أعظ من فراغ علمٍ وفكرٍ، فقد لعبتْ بي الأعاصيرُ والأمواجُ؛ فمرة يكاد يبتلعني التيار، وتارةً أُحَلِّق شفَّافاً، ومن جرَّب قُبح الشر رست سفينته على نعيم الخير.. وقد جعلت منعطفات حياتي خبرة لي واسعة، وموعظة كريمة منتفعاً بقول الإمام ابن حزم قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه: ((أما بعد: فإني جمعتُ في كتابي هذا معانيَ كثيرةً أفادنيها واهبُ التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال؛ بما منحني عزَّ وجلَّ من التَّهَمُّم بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله؛ حتى أنفقتُ في ذلك أكثَرَ عُمُري، وآثرتُ تقييد ذلك (بالمطالعة له، والفكرة فيه) على جميع اللذات التي تميل إليها أكثرُ النفوس، وعلى الازدياد في فضول المال، وزَمَمْتُ كلَّ ما سبَرَتُ من ذلك بالكتاب لينفع الله تعالى به من شاء من عباده ممن يصل إليه ما أتعبتُ فيه نفسي، وجَهَدْتُها فيه، وأطلتُ فيه فكري؛ فيأخذه عفواً، وأهديته هنيئاً؛ فيكون ذلك أفضلَ له من كنوز المال، وعَقْد الأملاك إذا تدبَّرَه، ويَسَّره الله تعالى لاستعماله.. وأنا راجٍ من الله تعالى في ذلك أعظمَ الأجر؛ لنيَّتي في نفع عباده، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، ومداواة عِلَلِ نفوسهم، وبالله أستعين.. حسبنا الله تعالى ونعم الوكيل)) (6).
قال أبو عبدالرحمن: جزى الله عني هذا الإمامَ الحبر خير الجزاء؛ فإنْ أوحشتني منه هِنَاتٌ قليلة فطالما نفعني الله به موعظةً مؤثرةً، وطالما فتَّق ذهني بفكره الجوَّاب وعلمه الواسع، وطالما أطلق لساني بِحُرِّ القول ذي الإيقاع اللذيذ، وطالما أرهف حسي بِبُعْدِ غوره في مجالَي الجمال.. اللهم اجمعني به ووالديَّ وأهلي وذريَّتي وإخواني المسلمين في الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
* في صراع عبدالناصر لإسرائيل قُبيل عام 1955م قال أرييل شارون - الذي يصفه الطائفيون بالذئب الأشهب -: ((لم يكن أيٌّ منا يستطيع في ذلك الوقت أن يحزر أن عملية غزة سيكون لها أصداءٌ كبيرة؛ فمظلِّيُّونا نجحوا في ضرب قلب الآلة العسكرية المصرية.. وبرهنت إسرائيل بوضوح بهذه الإغارة المذهلة أنها لن تتسامح بعد اليوم حيال أعمال الرعب ضد سكانها، وأن مصر كانت قابلةً للتجريح على رغم الوسائل الدفاعية القوية التي كانت في حوزتها.. وهذه الأمثولة فهمها جيداً الرئيس عبدالناصر، لكنه مع علمه بعجزه عن ردِّ هجوماتنا لم يفعل شيئاً لوضع حدٍّ للإرهاب الفلسطيني الذي أطلقه، بل فضَّل البحث عن حلفاء مستعدين للدفاع عنه ولتدعيم قوته العسكرية؛ليكمل حلمه بتدمير من كان يعتقدهم أعداءه.. والقوة الوحيدة القادرة حينذاك على تأمين العون العسكري والسياسي الذي كان يسعى إليها (الاتحادُ السوفياتي): لم يكن ينتظر إلا إشارة؛ فحققا حلم روسيا منذ مئة عام بالدخول إلى الشرق الأوسط، وها قد سنحت لها الفرصة الآن)) (7).
** قال أبو عبدالرحمن: هذا نموذج لتحدُّث قادة العدوِّ بأمجادهم، وما انطلق لسان من لا يحاربون إلا من وراء جُدُرٍ أو في حصونٍ إلا بقدرٍ كونيٍّ هو الذي يطابق مدلول قوله تعالى: إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ [سورة آل عمران/ 112]، وهو يعلم أنهم طارؤون على المنطقة بتقنية ودعم الدولة العظمى التي غابت شمسها ثم الدولة العظمى التي هي الآن في قائمة الظهيرة، مع تطويقٍ عالمي إكراهي للأمة العربية، وعدة هي من قضاء الله الكوني ابتلاء من الله وتثبيتاً، وهي عدة لا مجال فيها لشجاعة الشجعان، بل يتحملون بصبرٍ وإلى أجل سُخرية الجبناء، والمهم ههنا تشكيكه في هموم عبدالناصر بقوله: ((من كان يعتقدهم أعداءه)) يعني إسرائيل كأنهم أصدقاؤه في الواقع لا في الاعتقاد، وكأن مطايا إسرائيل أوصلته إلى سُدَّة الحكم.. والواقع أنهم اعترفوا به؛ لأن تحمُّلهم الهمَّ القومي العربي أهون من تحمُّلهم الطموح الإخواني.. والمهم ثانيةً تعميقُه القلميُّ هُوَّةَ الخلاف مع الماركسيين وهو يعلم أن الماركسية بنت الصهيونية، وأنهم حلفاؤه في تخدير وطمأنة عبدالناصر قُبيل نكسة حزيران بساعات.. ويعلم ثانية أن نكسة حزيران هي البداية لأبجديات الاعتداء على المسلمين في ديارهم، وتجريدهم عن هويتهم بالإرهاب الإعلامي، وقد بدأت الممارسة الفعلية بالربيع العربي والله المستعان.
*** هل أخي إبراهيم التركي هو (أبو عبدالرحمن التركي)؟!.. هذا ما يظهر لي من الإهداء في فواصله، ولم أعلم مَن (هتون) و(تالا) و(يزن) و(شدن)، ولولا أنني أستصغر سنَّ الدكتور إبراهيم لقلت: (هؤلاء حفدته بارك الله فيهم)؛ بدلالة ذكره المسافة بين الأجداد والأحفاد، ومن ثَمَّ أعرك أذنه، وأقول: أين الاعتزاز بأسماء العرب ذات الدلالة على القوة أو البهجة أو الصلاح؟.. وأين التفاؤل بالأعلام ذوي الصلاح والمواهب كعائشة وفاطمة وخديجة ومريم وهند وليلى.. إلخ.. إلخ.. وقد أذن لي الدكتور إبراهيم بملحق الأربعاء أن أُحلِّق مع فواصله كيف شئتُ؛ فبارك الله له في هشاشتي وبشاشتي وأعانه على العضِّ بالمهملة والغضِّ بالمعجمة.
* لا بد أن يكاتبني الدكتور حفظه الله بفك رموز الإهداء؛ لأعرف فلا أهرف، وهكذا الطفل الجميل عبدالرحمن أحمد السماعيل [عبدالرحمن بن أحمد بن إسماعيل أو آل إسماعيل]؛ فهذا شابٌّ جليلُ الشأن بين رموزنا؛ لأنه حقَّق حلم جدِّه؛ فجاء بما لم يأت به الأجداد.
** صيغة (الأحفاد) جمعاً لحفيد أو حافد غير صحيحة في لغة العرب؛ لأن معنى المادة وصف لا اسم، ولا يُجمع على وزن (أفعال) إلا الأسماء وَفْق قواعد مُعَيَّنة، والحِقْد - بالقاف - تُجمع على أحقاد؛ لأن المراد التسمية؛ فإذا قلت على الوصف (حاقد) قلت حَقَدة مثل كَفَرَة وفَجَرَة وظَلَمَة.. والحافِد بالفاء يُجمع جمع كثرة على (حُفَّاد) مثل كفار وفجار، وجمع القلة حَفَدَة.. ولجمع الكثرة للصفات صيغ أخرى مثل (سُجَّد)، و(رُكَّع)، وكَتَبَةٍ، وإلى لقاء مع هذا السبح اللغوي، على أن أخي الدكتور التركي سيستهلكني بفواصل (مآزق التخصص)؛ لما فيها من هموم وأشجان تتعلق بالربيع العربي، والله المستعان؛ فإلى لقاء في الأسبوع القادم إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتكال.
****
(1) انظر بلاغة الحُواة عن هذا النص في كتاب (إسرائيليات بأقلام عربية/ الدسُّ الصهيوني/ لغادة السمَّان ص100 - 167/ دار الهادي ببيروت عام 1422هـ/ الطبعة الأولى.
قال أبو عبدالرحمن: حقٌّ على العربي المسلم؛ ليبرز هُوِيَّته في الصبر والكفاح والجهاد الدبلوماسي أن يتعمَّق في أدبيات الصهاينة والعرب بمفهومهم القومي والوطني؛ فإن تكاسل فمن الضروري أن يُلِمَّ ببعض الكتب المعرَّبة مثل كتاب (صورة العربي في الأدب العبري/ في وطن الأشواق المتناقضة/ قصص مختارة) لمؤلفه إيهود بن عيزر بترجمة الدكتور أحمد حماد/ دار الحمراء ببيروت الطبعة الأولى عام 2001م، و(الاستيطان اليهودي في الأدب الصهيوني) لعبدالوهاب محمود وهب الله/ دار الكلمة ببيروت/ الطبعة الثانية عام 1983م، و(العربي في الأدب الإسرائيلي) تأليف الكاتبة جيلارا مراز رايوخ بترجمة نادية سليمان حافظ/ المشروع القومي للترجمة/ المجلس الأعلى للثقافة عام 2000م.
(2) صورة العربي ص7.
(3) صورة العربي ص9.
(4) قال أبو عبدالرحمن: أحب شيئ إليهم في أحد أعيادهم فطيرٌ عُجِنَ طحينه بدم طفل نصراني أو مسلم.
(5) صورة العربي ص35 - 36.
(6) الأخلاق والسير ص73 - 74/ دار ابن حزم ببيروت.
(7) مذكرات أرييل شارون ص138 ترجمة أنطوان عَبيد/ مكتبة بيسان ببيروت/ الطبعة الأولى عام 1412هـ.