أوضاع أمتنا، عرباً ومسلمين، أوضاع مأساوية على العموم، وتحت وطأة هذه الأوضاع مما يعزي النفس قراءة شيء من فجر تاريخ هذه الأمة، وبخاصة ما تحقق لسلفها الصالح من انتصارات في شهر رمضان الفضيل، الذي نعيش العشر الأواخر منه، والذي هو شهر الانتصار بأبعاده الإيمانية والحسية، وطليعة أولئك السلف الصالح خير قرونها، قرن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الغُرِّ الميامين، رضوان الله عليهم أجمعين، ومما يعبق بالندى في تاريخهم الانتصاران العظيمان، اللذان حدثا في شهر رمضان، وهما الانتصار في معركة بدر، والانتصار يوم فتح مكة.
معركة بدر.. يوم الفرقان
كان المسلمون قد عانوا من طغاة قريش ما عانوا من ظلم، فكان من عدل الله -سبحانه- أن أذن للمظلومين بالرد على ظلم الظالمين، وتمشياً مع التوجيه الإلهي بدأ قائد الغُرِّ الميامين، صلى الله عليه وسلم، العمل للانتصاف من الظلمة، وذلك يبعث سرايا تترصد قوافل قريش المتجهة إلى بلاد الشام أو العائدة منها، وفي يوم من أيام السنة الثانية للهجرة النبوية، التي كان من نتائجها أن ناقة المصطفى، عليه أفضل الصلاة والسلام، لما وصلت إلى طيبة:
أناخت بها «مأمورة» فتأسست
لمسجده حيث استقرت جوانبُ
وقامت على التوحيد أفضل دولة
تَحقَّق للإنسان فيها مكاسبُ
وصل إلى المدينة خبر سير قافلة تجارية كبيرة لقريش، بقيادة أبي سفيان، متجهة من الشام إلى مكة، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، بأتباعه وعددهم لا يتجاوز ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يعتقبون سبعين بعيراً، ومضوا في سبيلهم لاعتراض القافلة المذكورة، لكن أبا سفيان علم بتوجههم إليه، فأرسل إلى مكة يستنفر أهلها لينقذوا أموالهم، ولم يكتف بذلك -وهو الداهية- بل غَيَّر وجهة القافلة نحو ساحل البحر ولقي استنفار قريش صداه، فخرجت بَطِرةً مختالة بجيش يزيد على تسعمائة رجل، ومعهم سبعمائة بعير ومائة فرس.
على أن أبا سفيان ما إن اطمأن إلى سلامة القافلة من خطر اعتراضها حتى أرسل إلى قادة قريش يخبرهم بسلامتها، وينصحهم بالرجوع إلى مكة، لكن البطرين المختالين أخذتهم العِزة بالإثم، وصمموا على أن يصلوا إلى بدر، ويستعرضوا هناك بطرهم وخيلاءهم، وكان المسلمون في طريقهم إلى بدر، ولما اقترب الجمعان أحدهما للآخر وأصبح الميدان مهيأ لمشهد المعركة، التي سمَّاها -جل وعلا- يوم الفرقان، دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ربه نصره الذي وعد به المؤمنين، وفي صباح يوم الجمعة السابع عشر من رمضان نظم صفوف المسلمين، ثم انصرف وغفا غفوة، وأبو بكر معه يحرسه، وعنده سعد بن معاذ وجماعة من الأنصار على باب العَرِيش الذي بُني ليكون فيه، ثم خرج يثب في الدرع ويتلو قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر45)، وتزاحم الجمعان وحمي وطيس المعركة بين جمع الحق والإيمان وجمع الظلم والطغيان، وأمدَّ الله رسوله والفئة القليلة المؤمنة التي معه بنصر عظيم، عائدين إلى مكة أذلاء. أما المسلمون فلم يقتل منهم إلا أربعة عشر شهيداً، ولما انتهت المعركة قال صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم صلى على الشهداء فدفنوا. وبعد ذلك وقف على قتلى قريش، وقال: «بئس عشيرة النبي كنتم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس»، ثم ارتحل بالمسلمين إلى المدينة ظافرين فرحين بنصر الله ومعهم الأسرى والغنائم، أما الأسرى فمنهم من فدى نفسه، ومنهم من أطلق سراحه دون فداء، ومنهم من كانت فديته تعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة، وهكذا كانت معركة بدر فرقاناً بين الحق والباطل، فما أطيب على نفس المؤمن من تذكرها واستلهام العبر منها.
فتح مكة
كان مما اتفق عليه في صلح الحديبية، الذي تم في السنة السادسة من الهجرة النبوية، بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته من جانب وقريش من جانب آخر أن تكون بين الطرفين هدنة، وأن من أحب أن يدخل في عقد الرسول من القبائل فعل، ومن أحبَّ أن يدخل في عقد قريش منها فعل.
فدخلت خُزاعة في عقده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش، وبعد عامين من ذلك الصلح، أي في السنة الثامنة من الهجرة، حدث أن اعتدت بنو بكر على خُزاعة غدراً، وساعدتها قريش بالسلاح وبالقتال خفية، وكان معنى هذا نقض قريش شروط صلح الحديبية، فشكت خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مستنجدة به، وشعرت قريش بذنب فعلتها، فقدم زعيمها المُحنك أبو سفيان إلى المدينة محاولا إعادة المياه إلى مجاريها، لكن محاولته لم تنجح ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى أن ذنب قريش أكبر من أن يُغتفر، وعزم على وضع حدٍّ لطغيانها، وبخاصة أن دولة الإسلام قد ترسخت قوتها، وامتد نفوذها وقرر أن يبسط جناح تلك الدولة الرحيم على رحاب مكة وأن يُطهرها من أدران الشرك بالله لتعود إليها ملَّة إبراهيم الحنيفية التي واكبت رفعه القواعد من بيته المُحرَّم.
كان مشركو قريش الطغاة الظلمة قد أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم، من مكة ثاني اثنين وظلوا طوال السنوات التي تلت هجرته منها إلى المدينة يحادون الله ورسوله، ويحاربون المسلمين، تارة وحدهم وتارة أخرى يناصرون عليهم أعداءهم من اليهود والمشركين، وها هو ذا من أخرج ثاني اثنين، وعانى صحابته من طغاة قريش وظلمتها الأمرين، يستعد للانطلاق من المدينة مهاجره، إلى مكة ليفتحها بجيش يزيد على عشرة آلاف مقاتل.
ومضى موكب المؤمنين متجها إلى هدفه، وقد عُمِّيت أخباره عن قريش التي كانت وَجِلة خائفة مما قد يحدث لها نتيجة نقضها صلح الحديبية، وكان من حسن حظ أبي سفيان، الذي كان قد خرج من مكة خائفاً يترقب، وَجِلا يتجسس الأخبار، أن لقي العباس بن عبدالمطلب الذي أردفه على بغلته حتى أدخله سالماً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، عمه العباس أن يأخذ أبا سفيان عنده، ثم يغدو به صباحا إليه، ولما حضر بين يديه في الصباح دار بينهما الحوار الآتي:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي. ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره، لقد أغنى عني شيئاً.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟
قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي. ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه ففي النفس حتى الآن منها شيء.
قال العباس لأبي سفيان: ويحك أسلم قبل أن يُضرب عنقك، فشهد شهادة الحق، وأسلم. ثم قال العباس للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل يُحب الفخر، فاجعل له شيئاً. قال: نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
ومضى أبو سفيان، بعد أن رأى بأم عينيه قُوة جيش المسلمين الهائلة، إلى قريش، صارخاً بأعلى صوته: هذا محمد قد جاءكم بما لا قيل لكم به. وأخبرهم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، من حيث توفير الأمان لهم، فتفرقوا إلى دورهم وإلى المسجد. وسار الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى دخل مكة من أعلاها، وأمر خالد بن الوليد، فدخلها من أسفلها، وتصدى بعض السفهاء لقتال خالد، فأصيب منهم اثنا عشر رجلا، ثم انهزموا. ولم يكن دخول النبي صلى الله عليه وسلم، مكة دخول المنتقم، رغم ما أصابه من أهلها، وإنما دخول الشاكر لمن أنعم عليه بفتحها، مطأطئ الرأس تواضعا لله -سبحانه- واعترافاً بفضله على نصره وتأييده.
وبعد أن طاف بالبيت العتيق وصلى في الكعبة المشرفة، وحطم الأصنام حولها قال -كما قال إثر معركة بدر: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم أبدى من كريم السجايا ما أبدى، وما كان به جديراً، إذ قال: يا معشر قريش.. ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً. أخٌ كريم وابن أخٍ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهكذا انتصر الإيمان على الكفر، وتجلى تعامل سيد الأولين والآخرين -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- في أبهى صورة وأعظمها، إخلاصاً للمنعم عليه وعلى المؤمنين بذلك الفتح الأعظم، وتسامحاً منقطع النظير مع خصم الأمس المغلوب المنكسر، وحكمة لا تضاهي آتت ثمارها المرجوة كاملة غير منقوصة.
هدى الله الجميع للاقتداء بسيرة النبي الكريم العطرة، والتحلي بصفات صحابته الغُرِّ الميامين، ونصرنا على أنفسنا لندرك الحقائق، ونسلك الطرق المؤدية إلى النصر على من أشهروا العداوة ولديننا، وواصلوا ارتكابهم الجرائم ضد أمتنا في كثير من ربوعها.