كثر الحديث عن قضايا الحلال والحرام في التشريع الاقتصادي في البنوك، بل أصبح مادة دسمة في الصحافة، وفي المنتديات خلال العقد الأخير، وكثرت الدعوات للنظر في الأمر من خلال رؤية اقتصادية غير منحازة، ومع ذلك لم تتحرك مؤسسة النقد للبت في مسائل الحلال والحرام في معاملات البنوك، وهل بيع النقد بالنقد حلال أم أن التورق وما شابهه هو الحلال المحض، أم كلاهما حرام أو حلال، أم أن الأمر يخضع لسياسة الاقتصاد الحر الذي يجيز كل شيء ولا يضع قيودا تحد من حريته، وتلك إشكالية أثقلت الأسر بالديون، وذلك لغياب الأنظمة التي تحمي المواطن من التلاعب بفوائد القروض، وخصوصاً في ما يُطلق عليه بالقروض الإسلامية.
قد سبق وأن أشرت في مقالات سابقة إلى خطورة دخول المشايخ إلى البنوك من أجل أسلمة شكلية للقروض، لكن يبدو أن لعاب المغريات المادية قد أغلقت باب درء المفاسد ثم حولته خلف باب جلب المصالح الشخصية للمفتين، وأستطيع القول إن البنوك قد أسقطت مصداقية بعض المشايخ في فخ المكافآت العالية، وفي ذلك فتح جديد في دائرة التفسير الإسلامي، والذي تنقل من أقصى درجات الموقف ضد كنز المال إلى فتح الباب على مصراعيه للرأسمالية المتوحشة، والتي لا تعترف بالرحمة والشفقة أو تطهير المال بالنفقات في سبيل الله، وقد كان التورق البوابة الأوسع التي سمحت للغول الرأسمالي في أن يفترس البسطاء، ولا زال الأمر في التورق غير واضح المعالم، وهل هو حرام أم حلال؟ لكن ذلك لم يتجاوز بعد إشكالية النقل، ولم يصل إلى درجة إعمال العقل في توضيح الصورة الحقيقية للتورق، وقد وصل أمر التورق في أن يكون مادة تلفزيونية دسمة في إحدى حلقات (طاش ما طاش)، وفي ذلك إيذان بانتقال الحوار إلى العامة، ومع ذلك لازال السؤال الأهم يدور في أذهان المسلمين بلا إجابة: هل يوجد اقتصاد إسلامي: ولو افترضنا أن الاقتصاديين الإسلاميين يريدون تحريك العمل والإنتاج من خلال الاقتراض عبر المواد المصنعة والمنتجة لكان من المفترض أن يشترطوا أن تصاحبه حركة إنتاجية محلية، والسبب أن الاقتصاد الحقيقي يقوم على عوامل رئيسية منها تشغيل اليد العاملة وتوافر المصادر الطبيعية اللازمة لقيام الصناعة ورأس المال، وعلى المشاريع الاقتصادية المنتجة، لكن ما يحدث الآن يقوم على ترويج منتجات غير محلية في ظل بطالة متزايدة، وفي ذلك إخلال بالشرط الأول، وهو أن يكون الاقتصاد في خدمة الوطن.
كما هو ضروري أن تكون هناك مؤسسة رسمية غير منحازة ولا تتقاضى مالاً من البنوك وظيفتها إصدار التشريعات في المعاملات البنكية، أو أن يُشكل علماء الاقتصاد ندوة أو هيئة علمية أهلية لدراسة الاقتصاد والاجتهاد في المسائل المختلف فيها، وهل يوجد بالفعل اختلاف بين ما تقدمه البنوك التقليدية وما يُطلق عليه بالاقتصاد الإسلامي، بدلاً من الرضوخ إلى إغراء البنوك واحتكاره لعقولهم، وفي حالة الأخذ بتحريم التورق: فهل يصح القول إن هناك اقتصادا إسلاميا!، و لعل ذلك هو القول الأرجح؛ لأنه لم يُعرف في تاريخ المسلمين في عصر النهضة أي نشاط مصرفي يقوم على الإقراض المنظم، والذي كان محرما في الأديان الثلاثة، لكن اليهود سمحوا لأنفسهم أن يقوموا بدور المرابي مع الأغيار، وهو ما فتح باب الإقراض المصرفي، ثم تأسيس البنك أو المصرف الذي يقوم بكنز المال واستثماره من خلال تقديم قروض عليها فوائد للآخرين.
خلاصة الأمر أننا أمام أزمة معرفة اقتصادية اختلط فيها الأمر على أهل الفتوى في قضايا الإقراض المالي، إذ لم يستطيعوا التفريق بوضوح بين القرض الإسلامي والربوي، أي بين القرض الذي يُدفع من خلال وسيط منتج أو عبر دراهم بدراهم، لكن ما حدث أن القرض الإسلامي أصبح أكثر فائدة من الربوي، وفي ذلك ظلم للإنسان المسلم، فقد كانت علة تحريم الربا منع الظلم، لذلك نحتاج إلى دراسة الأمر من جديد، وأن تكون مصلحة الاقتصاد الوطني أولاً، لكن ذلك لا يعني الانقطاع عن العالم، على أن تتم حماية المواطن السعودي من قضايا الإقراض الاستهلاكي أو من التغرير به في أن يدفع قروضا إسلامية أعلى فائدة كعلة لتطهير ماله من آثام القرض الربوي الأقل فائدة.. والله الموفق.