بعد مرور عشرة أيام فقط على وفاة والدي -رحمه الله- كانت الصدمة سيدة الموقف والحزن والألم والفجيعة ما برحت تنسج لها بيوتًا في قلبي المكلوم، كنت في أوج الأزمة والفصل الدراسي الثاني قد بدأ ومضى على انطلاقته عشرة أيام.. فاخترت المواد التي أنوي دراستها هذا الفصل، وقررت أن أبدأ الدوام يوم السبت القادم، وفعلاً عضضت على جرحي ورفعت رأسي بعد هذه الخسارة الموجعة، وبدأت أول يوم دراسي بتماسك جيد، ودلفت أول محاضرة لي، وحين انتهت توجهت إلى الدكتورة لاعتذر لها عن غيابي في الأيام القليلة الماضية، معللة ذلك بوفاة والدي، فصدمت بردة فعلها غير المتوقعة إطلاقاً، حيث قالت لي وبدم بارد ولا مبالاة (وإذا توفي وش أسويلك؟)، فرددت: (لا شيء) فقط أردت أن أعتذر وأبرر لك سبب غيابي.. فقالت: الغياب في حالة الوفاة لا يتجاوز ثلاثة أيام، كما يجب أن تحضري لي شهادة الوفاة لأتأكد! فقلت: ولكن يا أستاذة... فردت بلغة صارمة محاولة إنهاء النقاش.. «هذا القانون».. ورحلت. وبعد أن توقفتُ لدقائق غير مصدقة ما حدث أمامي من قسوة ولا إنسانية، مضيت أنا أيضًا لمحاضرتي التالية وترددت كثيرًا هل أبرر لهذه الأستاذة أيضًا سبب غيابي أم أصمت وأتجاهل الأمر تفاديًا لمزيد من الصدمات، وبعد مفاوضات ساخنة بين العقل والقلب، قررت أن أخبرها شريطة أن أستعد نفسيًا للاحتمالات كافة، اقتربت من مكتب الدكتورة بخطوات ثقيلة وقلت لها: أعتذر عن غيابي، وذلك لظرف وفاة أبي. فبادرتني وملامح الحزن تغزو وجهها الطيب: أتأسف كثيرًا لذلك وعظم الله أجرك ورحم الله والدك، كيف أنت الآن؟ أتمنى أن تتجاوزي الأزمة بسرعة، وسأعطيك غداً كل الأوراق والمعلومات التي قدمتها لزميلاتك وإن احتجت أي مساعدة فأنا حاضرة.. وغادرت القاعة وسط ذهول وتعجب.. ومن حينها وأنا عشرات الأسئلة عالقة على ذهني، ما الذي يجعل كل إنسان يتصرف بشكل مختلف ومعاكس تمامًا عن الآخر على الرغم من أنهما يعيشان جنبًا إلى جنب ويمارسان المهنة ذاتها؟ لماذا عاملتني الأولى -وربما عاملت كثيراً مثلي- بقسوة ودون رحمة؟ والثانية أعطتني وردة تعاطف وشمعة إنسانية مضيئة.. ماذا كان سيكلف الأولى لو أبدت شيئًا من الحب والأخوة وتركت انطباعًا جميلاً؟؟ فوالله لم يستطع عقلي أن يقبل أي معلومة منها خصوصًا حينما كانت تتحدث عن سماحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خلال المحاضرات وحين يستوجب الموضوع ذلك. رفض فكري أن يصدق أي كلمة أو جملةمنها، كيف لا؟ وهي تعيش ببرجها العاجي وبينها وبين العلم الذي تقدمه والقيم التي تروج لها آلاف الأميال والأزمنة.. أجزم أن مثل قسوتها هناك الكثير مما جعل البعض يفسر سر تشابه كلمة دكتور وديكتاتور.. فكم ممن حملوا شهادات من أرقى الجامعات، ودرسوا أدق التخصصات، وبذلوا في سبيل العلم شهوراً وسنوات، ولكن أخلاقهم الهشة تعريهم في كل حين، تفضح عجزهم عن تهذيب نفوسهم وإعلاء قيمهم. إن تلك التصرفات التي نقترفها تجاه بعضنا تبين حجم الخلل في أخلاقياتنا، فإذا لم نبدأ بترميم سلوكياتنا من الداخل ستتحول كل مشاريعنا النهضوية وخططنا التنموية إلى أوهام وأضغاث أحلام.. فما فائدة الأموال وبراميل الإسمنت التي في جوفها أحلامنا بجامعات عملاقة ومراكز متطورة ونحن لا نتقن أبجديات التعامل الجميل والسمح مع بعضنا البعض؟ انتصاراتنا الحقيقة، أخلاقنا الأصيلة، حبنا لوطننا والتزامنا بديننا لا يقاس بالتكدس حول المساجد فقط، والتصاعد في عدد الجامعات والمدارس، بل في كيفية تعاملنا مع بعضنا وتلك التفاصيل الصغيرة.. الصغيرة جداً، هي التي تعكس واقعنا، فيومياتنا هي التي تصنع حاضرنا ومستقبلنا. وما أتحدث عنه لا يقتصر فقط على تصرفات أساتذة الجامعة، بل على كل سلوكياتنا مع بعضنا في الجامعة والمستشفى وفي الدائرة الحكومية والشارع والمخبز والمقهى، لن ننال الحضارة بالإسمنت والبترول بل بالأخلاق والمعرفة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصف الدين بكلمة واحدة تختصر الكتب والمجلدات حين قال (الدين... المعاملة).
نبض الضمير: (لا يمكن للإنسان أن يكون عالمًا قبل أن يكون إنساناًً).