قيل قديماً إن الجيوش تزحف على بطونها، أي لا تستطيع أن تحارب إلا وبطونها مليئة بالغذاء. وما يحدث بأسواق المال العالمية من تقلبات كبيرة لعله يأخذ منطق حركته من نفس تلك المقولة الشهيرة، فمنذ أسبوعين أو أكثر والأسواق تعيش حالة فريدة من التذبذبات الحادة وقد خسرت الأسواق العالمية أكثر من أربعة ترليونات دولار خلالها ولم يعد هناك استقرار حقيقي بالأسواق فلم يمكن التنبؤ بحجم الهبوط أو حتى الاراتداد الذي يحدث في اليوم التالي وبعض الأحيان بنفس جلسة التداول ولكن في حقيقة ما تعانيه الأسواق حالياً تبرز قدرات الساسة العالميين المعنيين بالشأن الاقتصادي وتحديداً في أميركا وأوروبا على السطح وبشكل أخضعها للتقييم بشكل مباشر وعنيف في بعض الأحيان من قبل المراقبين والمستثمرين فبداية الحكاية مع ما تعيشه الأسواق المالية بكل العالم أتت من خلال التعاطي السلبي مع قضية رفع سقف الدين الأمريكي من قبل أطراف الكونجرس الأمريكي الحاكمة والمعارضة إلى درجة أن الاتفاق تم التوصل له بآخر يوم من المهلة التي حددتها وزارة الخزانة الأمريكية للتوقف عن سداد التزاماتها في الثاني من أغسطس الجاري.
وكانت النتيجة أن قامت وكالة ستاندر اند بورز بخفض التصنيف الائتماني لأميركا ولأول مرة بالتاريخ مما انعكس سلباً على أسواق العالم برمتها وساهم في ذلك أيضاً تعاطي الساسة الأوروبيين مع أزمة الدين السيادي التي تجتاح معظم دولهم المنضوية تحت لواء اليورو فبين مطالبات بوجود حلول سريعة إلى مواقف لا تنسجم مع حاجة الأسواق إلى طمأنتها من خلال التصريحات التي ركّزت على خطط التقشف والإصلاحات المالية وانتظرت الأسواق نتائج اجتماع قادة فرنسا وألمانيا أكبر دول اليورو والذي تمخض عنه خطط بعيدة المدى ورفض الحلول التي كانت مطروحة كالسندات المشتركة أو رفع حجم صندوق الاستقرار المالي الأوروبي مما أعطى انطباعاً للأسواق بأن الاجتماع كان مخيباً للآمال، فالأسواق كانت تريد حلولاً سريعة تهدئ من مخاوفها الأمر الذي لم يحدث.
ولم تتأخر بيوت المال العالمية عن وضع مزيد من الضغط على الأسواق لتعلن عن توقعات بائسة حول معدلات النمو المستقبلية بالاقتصاد العالمي والأمريكي، حيث خفضت توقّعاتها بشكل كبير وخصوصاً لأميركا لتهبط الأسواق بشكل عنيف وتتراجع معها أسعار النفط تخوفاً من ركود اقتصادي عالمي ممكن أن يعود وارتفع بالمقابل الذهب إلى مستوى قياسي فاق 1880 دولاراً للأونصة وتراجع سعر صرف الدولار إلى مستويات جديدة خصوصاً أمام الين الياباني، حيث سجَّل أمامه أقل سعر منذ الحرب العالمية الثانية، ومن الواضح أننا أصبحنا نعيش مرحلة الأخبار والأرقام القياسية غير المسبوقة في خضم هذه الأحداث الاقتصادية غير العادية والتي لم تعشها الأسواق المالية العالمية سابقاً.
إن تأثير كل هذه الأحداث انعكس على الأسواق ليس هبوطاً فقط أو تقلبات حادة، بل إلى ضعف بالتداولات وتراجع بنسب السيولة التي تضخ فيها ومحاولات مستمرة للخروج من الأسواق بالوقت الحالي لانتظار الحلول أو التأثيرات المحتملة على اقتصاديات الدول صاحبة الأزمة وما الذي سيحدث خلال الأسابيع القادمة، حيث ما زالت الأسواق متفائلة بأن تدخلاً سيحدث وأن قرارات فاعلة وسريعة لا بد أن يفصح عنها في الفترة القادمة لاعتقادهم بأن أي تأخر عن إجراءات تنقذ الاقتصاد وتبعده عن شبح العودة للركود مرة أخرى سيكون ثمنه باهظاً على تلك الدول والعالم بأسره.
وأصبحت الأسواق الآن تتعايش مع واقع الصراع على السيولة وإبعادها عن الأسواق المالية من قبل المستثمرين مؤقتاً حتى تنقشع موجة الضباب التي تلف الأسواق، فالمستثمرون اعتادوا توفر السيولة عند الطلب من البنوك المركزية إذا ما دعت الحاجة واليوم لا يبدو أن هناك وضوحاً في ما إذا كانت تلك البنوك مستعدة لضخ أي كمية من النقد تحتاجها الأسواق حتى الفيدرالي الأمريكي باجتماعه الأخير لم يكن صريحاً بأن لديه نية بجولة تيسير كمي ثالث رغم قناعة الجميع بأنه سيقدم على هذه الخطوة مستقبلاً وخلال فترة لن تتعدى بضعة أشهر.
إن الأسواق المالية العالمية بدون استثناء تتأثر بالمجاعة المالية الحاصلة بوقتنا الحالي وهذا ما يجعلها لا تستطيع الزحف بشكل منتظم ومستقر وبدأت بإيجاد الحلول الذاتية من خلال توفير غذائها من تلقاء نفسها بالانسحاب من الأسواق والمضاربة لتكوين رأس مال جيد يستطيعون من خلاله مجاراة الأحداث القادمة بقدرات فردية منهم سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات مالية ولذلك نجد أن حركة الأسعار والمؤشرات لا تتوقف عن التقلب الحاد ولن تهدأ حتى تعود التغذية لها كي تستطيع العودة إلى سياقها الطبيعي كوجهة تمويل للاستثمارات التي تنعكس على الاقتصاد الحقيقي بالإيجاب والأسواق بالاستقرار.