لا أريد في هذه المقالة وضع حالة مقابل حالة، ولا أشبه أبدا ما قامت به الفئة الضالة لدينا من تخريب وقتل تمارسه السلطات في سورية وفي ليبيا، لا أبدا ؛ فالفئة التكفيرية الضالة لدينا وفي العالمين العربي والإسلامي تمثل « عصابة « مخدوعة بأفكار منحرفة،
لا تمثل تيارا، ولا تشكل اتجاها، ولا ترفع مطالب شعبية، ولا يؤمن بأفكارها المنحرفة إلا نفر شاذ ومحدود، وهو فكر يتكرر على مدى التاريخ العربي والإسلامي بين حين وحين، كنتيجة ورد فعل لأزمات وإحباطات إسلامية وعربية كثيرة، فتستغل من قبل شخصيات تحمل مطامح وأجندات خاصة، وتستقطب الشباب بكل الدعاوى لتنفيذ مطامعها وتحقيق مآربها الخاصة، متسربلة بخطابات دينية ومتبرقعة بادعاء الدفاع عن الأمة، والانتصار لقيم الدين كذبا وزورا وبهتانا، وهم يهدمون عرى الدين عروة عروة، ويرتكبون باسمه الحماقات، ويستحلون بشعاراته الدماء والأموال والأعراض!
لا يمكن أبدا أن تغيب عن ذاكرتنا ضلالات وجرائم التكفيريين في كل مكان من عالمنا العربي والإسلامي، فهم هنا يقتلون العسكر والمدنيين تحت حكم فقهي اخترعوا ونظموا له حدودا وقيودا وهو « الردة « لأفراد الشعب من موظفي الحكومة، وحكم قاس آخر وهو « الكفر « الذي يحظى به وفق تنظيرات هذا الفكر الضلالي المنحرف « الحكام « ومن في طبقتهم؛ فنحن إذن بين حكمين فقهيين - حسب الفئة الضالة - كفار أو مرتدون!! ولا نخلو من أن ينطبق علينا واحد من هذين الحكمين الضالين! وبهذا التصنيف المنحرف استحلت جماعة التكفير في كل مكان من عالمنا العربي والإسلامي كل شيء : الدم والعرض والمال، فالشرط ورجال الأمن دمهم حلال !! ونساء وبنات المسلمين حلال! لأنهم بنات ونساء مرتدون، فيؤخذن - في الجزائر - إلى الجبال اختطافا وتستحل أعراضهن ؛ لأنهن « غنائم وسبايا «! ويطلب أحد « المجاهدين « من أولئك القاطنين في جبال الجزائر من إحدى البنات المختطفات من طالبات المرحلة الثانوية أن تقول بعد أن يعرض عليها الزواج : قبلت على سنة الله ورسوله! لكيلا يكون هذا الزواج « الاختطاف « حراما فيأثم « المجاهد «!!! وربما تتذكرون قصة ذلك التكفيري المغربي من ساكني الدار البيضاء الذي وجد في مقدمة منزله العشوائي الذي بني من الصفيح قبرا، وحين سئل : قبر من هذا؟! فأجاب : هذا قبر والدتي، حين ماتت قبرتها هنا، لأنني لا أريد أن أدفنها في مقابر المرتدين!!
ووفق هذه الرؤية قتل التكفيريون هنا في بلادنا أبرياء واغتالوا وسفكوا واعتدوا على مراكز الأمن في مداخل المدن وفجروا في عدد من مؤسسات الدولة، فكيف تعاملت الدولة مع هذه الفئة الشاذة التي لا تمثل تيارا شعبيا ولا ترفع مطالب واضحة ولا تنادي أو تخاطب المجتمع والدولة بخطابات عاقلة أو متزنة تحقق مصلحة للوطن وللمجتمع والأمة؟!
كان من الطبيعي والمنطقي أن من رفع السلاح ووجه رصاصة إلى الآمنين وشق عصا الطاعة وأحدث شغبا وفوضى أن يواجه بمثل ذلك إلى أن يقضى عليه فيسلم الناس من شره، أو أن يستسلم ويكف أذاه عن الناس، ويتم سجنه وتوقيفه لينال عقوبته بعد محاكمة شرعية وفق أحكام القضاء الإسلامي العادل. وهذا ما تم بالفعل، فقد تم القضاء على عدد محدود اعتصم بمنازل أو مخابئ، وأوقف من انتمى إلى هذا الفكر الضال، ونودي بقوائم متعددة تحمل أسماء مطلوبين لاستجوابهم واستتابتهم وإرشادهم ونصحهم ثم إطلاق سراحهم حين لاتثبت تهمة قتل أو حمل سلاح أو ارتكاب جريمة من أي نوع عليهم.
ماذا تم بعد ذلك؟ هل واجهت الدولة هذا الانحراف الفكري بتصفية وقتل واعتقال وحرمان فرص العيش لعوائل من ضل أحد أفراد أسرهم ؟! هل شنق أو قتل أمام بيت أسرته ومطالبة أهله بثمن الرصاصة التي قتل بها، كما فعل نظام البعث في العراق أو كما يفعل البعث الآن في سورية؟ هل دمرت مدن؟ أو هجر بشر؟ أو أفرغت قرى؟ أو أقيمت على الحدود ملاجئ بواسطة منظمات إنسانية؟ هل علقت مشانق لهؤلاء المنحرفين؟ على الرغم من ارتكاب بعضهم جرائم قتل، وسعي آخرين إلى حدوث ذلك، وتورط نفر آخر في علاقات مريبة مع منظمات ودول أخرى!!.
الحق أن تعامل الدولة مع هذه الفئة مثل إنساني يحتذى ؛ فقد دعت المتشردين منهم في منافي الأرض شرقا وغربا إلى العودة إلى الوطن، وإعلان ندمهم وتوبتهم من أفكارهم الضالة، ووعدتهم بتخفيف العقوبة، وأخذ عودتهم إلى الوطن بعين الاعتبار عند محاكمتهم، وآوت من ليس له مأوى بعد ثبوت براءته، وزوجت من كان في حاجة إلى زواج، ووفت دين من كان مديونا، ووظفت من ليس له عمل، ومنحت من كان فقيرا ومحتاجا إلى المال ما يقيم له أموره ويساعده على بناء حياة جديدة، وكونت لجان مناصحة وإرشاد من نخبة مختارة من علماء الدين والفقهاء والاستشاريين النفسيين والباحثين الاجتماعيين ؛ لمناقشة المنتمين إلى الفكر الضال في ما يعتقدونه من أفكار، ونقض تلك الأفكار واحدة واحدة وفق منهج الكتاب والسنة، وبأدلة ووقائع من التاريخ الإسلامي، وشواهد من أحكام الفقه، فكان أن أعلن التوبة والإقلاع عن تلك المعتقدات التكفيرية مئات من المنتمين إلى الفئة الضالة وفكر ما يسمى « القاعدة « وخرجوا من السجون، وعادوا إلى أهلهم ومجتمعهم، بعد التشرد في المنافي، وبعد الهروب إلى الجبال وبطون الأودية والصحاري، وبعد الصد عن المجتمع والحياة، وكتب بعضهم قصة انحرافه ثم قصة توبته وما لقيه من تعامل طيب من الدولة؛ فكانت تجربته خير إقناع لمن ما زال في ضلاله القديم، ونشرت تلك التجارب في كثير من مواقع النت، وبعضها طبع في كتب، وعاد كثيرون من المتطرفين إلى مجتمعهم عاملين منتجين، في وظائف حكومية وخاصة، وبعضهم أفاد من مواهب ثقافية لديه ووظف اطلاعه الفكري والأدبي ليسهم بعد اعتداله كتابيا وصحافيا في حركة التنوير وكشف أوهام التطرف، والوقوف في وجه دعاته، والدعوة إلى نسف الأسس والدعاوى التي يبنى عليها المتطرفون ضلالاتهم في أحكامهم على الدولة والمجتمع.
إن هذه التجربة المرة التي مرت بها المملكة على مدى خمس سنوات من عام 1423هـ إلى نهاية عام 1427هـ في مواجهتها الفكر التكفيري التفجيري وما سبقها من إرهاصات قبل هذا التاريخ بعقد من الزمان تقريبا، أي بعد أحداث حرب الخليج الثانية، وبعد انحسار تتاليات غزو العراق دولة الكويت؛ تمنحنا - نحن السعوديين - قوة وثقة وشعورا بالأمان والطمأنينة في قدرة قيادتنا السياسية - وفقها الله - على مواجهة المستجدات، والتعامل مع المتغيرات حتى وإن كانت شديدة الكراهية والمرارة والعنف بحكمة وبعد نظر واعتدال.
ولدينا من الدلائل الأخرى الجارية، ومن الوقائع ما يؤكد هذا المنهج الحكيم والمتزن في التعامل مع المختلف من الفكر والتوجه مادام لا يحمل سلاحا ولا يدعو إلى عنف ؛ فثمة من ألب ومن كتب مثيرا ومن دعا إلى إنشاء منظمات مشبوهة وتجمعات لا غاية لها سوى إثارة البلبلة والتقول وخلط الحقائق، ومع هذا كله هم أحرار طلقاء، يكتبون وينشرون ويعيشون وسط عوائلهم، لم يؤذوا، ولم يغب أحد منهم في بطون السجون إلى الأبد، ولم يسحل منهم أحد، أو يقتل غيلة، أو يختطف وتلقى جثته لاحقا أمام منزله كما تفعل الأنظمة العسكرية! ولا يغيب عنا أن واجب حفظ الأمن يتطلب شيئا من الضبط والربط والشدة أحيانا في التعامل مع المخطئ ليستقيم الأمن وتتحقق مصالح الناس، وليست أحكام الشرع الرادعة التي تفرض تطبيق حد القصاص أو قطع اليد أو الرجم أو التعزير إلا بنية قوية للعدالة، فقتل مجرم واحد خير من أن يعفى من القتل ويذهب بسببه عشرات من الناس، وهكذا. فلم تفرض الأحكام الشرعية حين تضبط وتحرز الجريمة إلا لمنع وقوع جريمة أو جرائم أخرى، وللحاكم العادل اقتراح ما يراه مناسبا من وسائل الضبط وتحقيق الأمن بما يحقق الغاية من ذلك؛ وهي استتباب الأمن وحفظ مصالح المجتمع والدولة.
يتبع
ksa-7007@hotmail.com