العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم، لها مذاق خاص، مذاق الإيمان والعبادة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بقلب صادق وأمل كبير في أن يبلغ المرء مناه بأن يكون قد وافق اجتهاده ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ليلة تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن من الله عز وجل، ليلة سلام حتى مطلع الفجر.
في هذه الأيام القليلة العدد الكثيرة الخير يترك المرء كثيراً من شؤونه الدنيوية والترفيهية، ويتجه إلى الباري طالباً منه الرضى قبل كل شيء، والعون والمغفرة والعتق من النار، يتجه ليطلب من الله الكريم أن شمله بكرمه وعطفه ورحمته ولطفه، وأن ييسر أموره في دنياه وآخرته.
كلنا نطمع في رضى الله، وكلنا نتلمس أماكن وأوقات الاستجابة، وهذه الأيام الكريمات، أوقات تحري نرجو أن نوفق فيها بنيل المراد.
وحلول العشر الأواخر بقدر عظمتها وفرح المسلم بقدومها إلا أنها أيضا جرسٌ يذكر بقرب توديع شهر رمضان الكريم وإعلان لمن فاته من الشهر ما فاته أن يتدارك ما بقي ويحسن القول والعمل، ويجتهد قدر المستطاع للحصول على أكبر قدر ممكن من فضائل هذا الشهر الكريم، وتوديعه بأكبر غنيمة ممكنة، فلا غنيمة أجلّ وأعظم وأكبر وأثمن من غنيمة التوفيق بقبول الدعاء، بعد رضى الله سبحانه وتعالى، نحن نعلم أن في الدنيا مواسم كثيرة، وهذه سنة الحياة، فهي لا تسير على وتيرة واحدة، فهناك الصيف والشتاء، والحر والبرد، والجفاف والمطر، والربيع والدهر، وهناك مواسم الفواكه، والخضار، والقمح والشعير، وحتى مواسم السفاد واللقاح، وغيرها كثير، فإن كانت هذه الكرة الأرضية ومن عليها بمواسمها المتعددة، فهلا يكن لنا موسم نكون فيه أقرب إلى المزيد من الإيمان، والتوجه إلى الديان، طلباً للغفران وما أجد موسماً أعظم من العشر الأواخر لبلوغ المبتغى وتحقيق المنى.
طل شهر رمضان وستطل عشره الأواخر هذا العام ليكون شهراً وتكون عشراً تختلف عن سائر ما سبق من الأيام، ففيه يتقاتل أبناء البلد الواحد في أكثر من بقعة من بقاع البلاد الإسلامية، يقتل الجار جاره وابن العم قريبه، والنسيب نسيبه، يتقاتلون قتالاً تسيل فيه الدماء وتزهق الأرواح، ويتيتم الأبناء، وتترمل النساء، وتدمر الصروح، وتخرب الدروب، ويضيع الأمن، حتى لا يكاد المرء ينام في منزله قرير العين، فلا كهرباء تمدهم بالضياء، أو أنابيب تروي ظمأهم بالماء، وكأن على رؤوسهم الطير، مشدوهين مما يجري، متوجسين مما سيكون، لا يعلمون عن المستقبل شيئاً، ولا يريدون العودة إلى الماضي لأنه قد أوصلهم إلى ما وصلوا إليه، وحاق بهم بسببه، ما أكرهوا عليه.
يحل هذا الشهر الكريم، وتحل العشر الأخيرة فيه وهم لا يعلمون متى النهاية وكيف تكون، لكن لا خيار أمامهم إلا الصبر والدعاء في هذا الشهر الفضيل، لعل الله يفك كربهم ويشبع سغبهم، ويروي ظمأهم، ويبدل خوفهم أمنا، وقلقهم طمأنينة ويعوضهم ما فقدوا من الأبناء والأقرباء خيراً، وأن يكرمهم برزق من عنده.
يأتي هذا الشهر المبارك وتلك البلاد، تبحث عن مصير ونصير، فلا شيء إلا بإرادة الله وهو نعم المولى ونعم النصير.
لقد حلّ بتلك الديار ما حل، بعد أن غاب العدل، وغاب الحوار، وغاب البحث عن الحق وتحريه، وأصبحت الشهوات تسير القوانين، وليس القوانين تكبح جماح الشهوات، فالشهوات إذا غلبت وطغت، ضاع حسن التدبير، وطمس رأي الخبير.
نرجو من الله الهداية للجميع، والعودة إلى الحق، ومخافة الله، وأن يديم على بلادنا وعلى سائر بلاد المسلمين الأمن والأمان في هذا الشهر الحرام، وغيره من الشهور، إنه على كل شيء قدير.