|
الجزيرة – ماجد إبراهيم
في خضمِّ الهجمات المناوئة لمشروع الابتعاث، والمشككة في استفادة آلاف السعوديين المبتعثين حول العالم من هذه التجربة الكبيرة، يردُّ الشباب السعودي بهدوء على هذه الهجمات، مؤكدين يومًا بعد يوم على استفادتهم من هذه التجربة بكافة تفاصيلها ومفرداتها اليومية. في هذا التحقيق ومن منطلق اقتصادي بحت، نسلّط الضوء على أهم المشكلات التي تواجه المبتعثين، ومنها كيفية تدبير أمورهم الحياتية ومواجهة التغيرات في النمط الاستهلاكي. «الجزيرة» توجهت إلى مجموعة من المبتعثين، واستفسرت منهم حول اختلاف الأنماط الاستهلاكية بين المملكة والدول التي ابتعثوا إليها، وطريقتهم في إدارة مداخيلهم الشهرية والادِّخار منها لمواجهة متطلبات المعيشة المرتفعة في هذه الدول قياسًا بالمملكة، وجدنا منهم تفاعلاً ورغبةً ووعيًا، يوضح مدى انعكاس هذه التجربة على حياتهم الشخصية بالإضافة إلى تحصيلهم الدراسي.
الأهم فالمهم
في البداية تحدثت لـ»الجزيرة» دعاء عسيري المبتعثة إلى بريطانيا لدراسة الماجستير في العلوم المالية، عن استفادتها من اختلاف النمط الاستهلاكي بين المملكة وبريطانيا، مشيرة إلى أنها باتت تعتمد على نفسها بشكل كامل في توفير كافة احتياجاتها، ووضع الميزانية الملائمة، وعن الاختلاف الجذري في النمط الاستهلاكي بين المملكة وبريطانيا تؤكد دعاء على أن المستهلك في بريطانيا يبحث ويسعى للحصول على أقل الأسعار، كالشراء من نفس المتجر لتجميع نقاط في البطاقات التي توزعها المتاجر للحصول على تخفيض، أو الاستفادة من عروض بعض المتاجر التي تقدم تخفيضات عن طريق الإنترنت، بينما يعتمد النمط الاستهلاكي للمواطن السعودي على التعود، واستمراره في الشراء من نفس المتجر حتى وإن توفر بديل أفضل أو عروض مناسبة في المتاجر الأخرى.
من ناحية أخرى تقول دعاء: إن معدل استهلاكها في بريطانيا قد ارتفع، بسبب اضطرارها إلى شراء الاحتياجات الأساسية للمنزل التي تتوافر بالعادة في المملكة بحكم معيشتها مع الأهل، أما عن تأثير هذا الاختلاف على دخلها الشهري وطريقة تقسيمه والادخار منه أن إمكن تؤكد: إن الاختلاف يأتي أولاً من ناحية التفكير فيما تملكه وما هو المهم وما هو الأكثر أهمية، وتقول: الفرق يظهر لو تحدثنا مثلاً عن نفس المبلغ المستخدم قبل وبعد الابتعاث، قبل الابتعاث كان الاستهلاك من المنتجات الكمالية أكثر مما هو الآن، بينما يرتكز ما تصرفه الآن على المنتجات الضرورية.
وتشدّد دعاء على أن الادّخار أصبح شيئًا أساسيًا لمواجهة التغييرات والطلبات المفاجئة، بينما كان الاعتماد الأساسي قبل الابتعاث على الوالدين وما يتوفر من المكافأة الجامعية، وأشارت إلى أن اختلاف نمطها الاستهلاكي قبل الابتعاث وبعده قد وفر لها المزيد من الحرية المالية، من ناحية مسؤوليتها الكاملة فيما تصرفه وكيفية صرفه، لكنّه في المقابل قادها للحرص في الإنفاق على المتطلبات الأكثر أهمية.
لا للزواج قبل البعثة
من جهته يتفق مهند بن فهد الظاهري المبتعث إلى بريطانيا لدراسة الماجستير في القانون الدولي، مع ما طرحته دعاء عسيري من ناحية اختلاف جهة الصرف من الكماليات إلى الضروريات، مشددًا على أن الخروج من الجو الأسري هو السبب الأول في هذا التحول.
ويضيف مهند: الخروج من الإطار الأسري جعلني أواجه تغيرًا كبيرًا في نمط الاستهلاك فبعد أن كان جزءًا من استهلاكي يعتمد على شخصي، والجزء الآخر على البيت، أصبحت أتحمل كل شيء بنفسي مما جعلني أتغير في طريقة استهلاكي وإنفاقي للمال، مثلاً: كنت أصرف جزءًا من راتبي في الكماليات (جوال - ملابس - مطاعم - سفر) وجزءًا قليلاً في الضروريات (فواتير جوال فقط)، أما في بلد الابتعاث أصبحت أصرف بالدرجة الأولى على الضروريات (السكن - الأكل والشرب - التنقل - مصاريف الدراسة إن وجدت - فواتير كهرباء ومياه وهاتف) وهذا يستهلك الجزء الأكبر من ميزانيتي ما يجبرني على التقليل من الصرف على الكماليات. وعن استفادته من اختلاف النمط الاستهلاكي بين المملكة وبريطانيا يؤكد مهند بأنه يومًا ما لا بد أن يكون الشخص مستعدًا للصرف على نفسه بالكامل، وهذا ما يفتقده الشاب السعودي في المملكة، حيث الجو الأسري المتكامل والمتعاون ما يجعل الشاب يُصدم بعد الزواج بتحمل كامل مسئولياته المالية، بينما في بلد الابتعاث الكل يعتمد على نفسه منذ وصوله الثامنة عشر تقريبًا، حيث يتعلم الشاب منذ وقت مبكر ترتيب الأولويات في صرف المال، ومعرفة ما يمكن تأجيله كـ(الملابس) مما لا يحتمل التأجيل كـ(الفواتير والطعام والشراب)،
أما عن تأثير هذا الاختلاف على إدارة الدخل الشهري والادخار منه يقول مهند: التأثير كبير بلا شك، ففي البداية واجهت صعوبات مالية نظرًا لصعوبة الانتقال من نمط استهلاكي لآخر، حيث كنت اعتمد على كلمة (تبي تتسهل) واتساهل في الصرف، ولكن فيما بعد أصبحت أحسب حساباتي مبكرًا، حاولت أن أدخر جزءًا من المكافأة الشهرية ولكن كان من الصعب تحقيق ذلك، نظرًا للارتفاع الباهظ في تكاليف المعيشة في بريطانيا الذي لم يراع (للأسف) من قبل وزارة التعليم العالي، فالكثير هنا يعانون من تكاليف المعيشة بالمقارنة مع المكافأة، وسعر صرف الجنيه الاسترليني المثبت والمنخفض، مما يجعل المبتعث يواجه مشكلات مالية عندما يريد استئجار سكن جديد مثلاً، وقد يجد نفسه مضطرًا لاستجار بيت أو شقة يلزمه صاحبها بدفع مقدم ستة أشهر ما يعادل تقريبًا 20 ألف ريال إلى 30 ألف ريال بالإضافة إلى عمولة المكتب ومبلغ التأمين، وهذه كلّها مشكلات تلزم المبتعث بالادخار قصير المدى الذي لا يتوقع منه مستقبلاً فائدة كبيرة، مشيرًا إلى أنه كان ينفق كل دخله قبل البعثة، بينما أصبح الآن ينفق على ما يحتاجه فقط، وعن توفير نمطه الاستهلاكي الجديد لمزيد من الحرية المالية يقول مهند: بالتأكيد.. فكونك المسؤول 100 في المئة عن مصاريفك المالية يجعلك أمام حرية تامة فيما تملك، مع أن هذا له بعض السلبيات، حيث يؤثر ربما على نفسية الطالب حين يجد نفسه مسئولاً بالكامل عن استهلاكه. ويضيف بأنه لو وفرت الدولة للطالب السكن مثلاً.. لارتاح من عناء البحث عن الإيجارات المناسبة التي قد تأخذ من وقته أكثر من شهر.
ويختم الظاهري حديثه موضحًا ما يراه مشكلة قد يقع فيها المبتعث، وهي الزواج قبل السفر لبلد البعثة مباشرة، حيث يقول: من وجهة نظري أن هذه حالة صعبة، حيث سيواجه فيها المبتعث نمطين استهلاكيين جديدين، الأول متعلق بتغير الحالة الاجتماعية ومسؤولية الصرف على شخصين بدل صرفه على نفسه فقط، وما قد يلحق ذلك من أبناء، والثاني متعلق ببلد البعثة الذي غالبًا يختلف اختلافًا تامًا عن المملكة، حيث التكاليف العالية واختلاف أسلوب المعيشة، وكل ذلك يأتي بعد صرف كبير للأموال للزواج، حيث المهر والاستعداد للزواج الذي يندر أن يحققه أحد دون أن يقترض مبلغًا لا بأس به، هذا كلّه يضع المبتعث تحت ضغط شديد جدًا، فهو في هذه الحالة لا يدري هل يصرف مكافأته المتواضعة على ضروريات بيته الجديد في البلد الجديد، أم على سداد دينه، أم على ما يسعد ويرفه به حياته الجديدة ويسعد به زوجته، ولذا لا أوافق على زواج المبتعث قبل سفره بل لا بد من قضاء بعض الوقت في بلد البعثة ثم يتزوج بعد ذلك ليكون استعداده أفضل.
الابتعاث تجربة مالية
تركي السلمي مبتعث إلى أستراليا لتحضير الدكتوراه في تدريس الإنجليزية لغير الناطقين بها، بدأ حديثه لـ(الجزيرة) بالتأكيد على أنه تخلص من عادة التبذير السيئة، والتركيز على شراء الاحتياجات الضرورية فقط، ويضرب مثالاً بسيطًا على التحول الإيجابي في نمطه الاستهلاكي باعتياده على شراء عدد محدود من الكيلوات للفواكه عوضًا عن شراء كرتون كما كان يفعل في المملكة، ويؤكد السلمي على أنه في بلد مثل أستراليا تُعدُّ من بلدان الفئة (أ) حسب تصنيف وزارة الخارجية. ويُعدُّ السكن للعائلة ومصاريف المنزل عالية فيها، أنه يضطر في كثير من الأحيان للتعامل مع الدولار على أنه ريال حتى لا يتضجر من الغلاء، مشيرًا إلى أنه أصبح يضع ميزانية شهرية وأحيانًا أسبوعية لكل شيء، وذلك ما لم يكن يفعله قبل ابتعاثه، وعن معدل الصرف قبل الابتعاث وبعده يضيف السلمي: كنت أصرف شهريًا في المملكة ما يقارب سبعة إلى عشرة آلاف ريال ما يمثِّل 90 في المئة من راتبي الشهري، أمَّا في أستراليا فأصرف ما يقارب عشرة آلاف ريال بالإضافة إلى ثلاثة آلاف ريال شهريًا لحضانة الأطفال ما يمثِّل 70 في المئة من دخلي الشهري.
ويختتم السلمي حديثه بتأكيده على استفادته من سلوكه الاستهلاكي الجديد، الذي درّبه على ادخار مبلغ شهري يخصصه للسفر مع أسرته في بلد الابتعاث، أو شراء هدايا للأهل في السعودية. مشددًا على أن الابتعاث كما أنه تجربة دراسية فهو بالإضافة إلى ذلك تجربة مالية لكي تتعلم مهارات كثيرة نفتقدها في المملكة.
وفِّر ولو دولارًا واحدًا
صالح السعيد أحد المبتعثين العائدين مؤخرًا إلى أرض الوطن، يؤكد على استفادته من تجربة الابتعاث إلى كندا بعد عودته إلى المملكة في إدارة أموره المالية، مشيرًا إلى أن الابتعاث درّبه على تنظيم ميزانيته قبل تسلّم راتبه، ما جعله يوفِّر من دخله بعد عودته ما يقارب 50 في المئة في الوقت الذي كان يصرفه كاملاً قبل تجربة الابتعاث، ويقول السعيد: إن سلوك المستهلك الكندي في البحث عن أقل الأسعار لمشترياته جعله يؤمن بأهمية التوفير ولو كان دولارًا واحدًا، مضيفًا أنه بات يؤمن بأن الدولار هو بداية الثروة، مختتمًا حديثه قائلاً: لقد أصبحت أكثر تحكمًا بقوتي الشرائية، مستشهدًا بقدرته على الادّخار لشراء سيارة أو الزواج وذلك ما لم يكن يستطيع فعله قبل تجربة الابتعاث.
من جهته يؤكد ياسر السبالي المبتعث إلى أستراليا بأن الابتعاث غيَّر طريقته في الاستهلاك بشكل إيجابي، خصوصًا فيما يتعلق بشراء المواد الغذائية، مضيفًا بأنه تعلَّم أيضًا أهمية التوفير في استهلاك المياه رغم وفرتها هناك، مشددًا في الوقت ذاته على حرصه أن يطبق هذا المبدأ فور عودته إلى المملكة.
لا أحد يرمي الطعام
محمد بخاري مبتعث لدراسة الإعلام في بوسطن الأمريكية، يؤكد على أنه بالرغم من أن المجتمع الأمريكي يُعدُّ من المجتمعات الاستهلاكية، إلا أن الأنماط الشرائية تختلف بشكل كبير بين السعوديين والأمريكان، ويضيف: أهم ما رأيته شخصيًا هو الاهتمام الشديد بعدم طلب ما لا يحتاجه الفرد، خصوصًا في المنتجات الاستهلاكية اليومية مثل الأطعمة وما شابهها، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم أرَ في أي مطعم في أمريكا شخصًا يزيد من طعامه ويرميه، كل شخص يطلب على حسب ما يحتاج فقط بحيث ينهيه ولا يزيد، ويشير بخاري إلى أنه كان موظفًا قبل الابتعاث وكان يصرف من راتبه شهريًا ما يوازي النصف ما بين فواتير خدمات وعناية بالسيارة والأكل، بالرغم من أنه أعزب ويسكن مع عائلته، وبالتالي ذلك عدم صرفه على أشياء كثيرة أصبحت يصرف عليها الآن في بلد الابتعاث، مؤكدًا على أن الاعتماد على النفس في إدارة المصاريف يُكسب المبتعث القدرة على التحكم بكيفية إدارة مشترياته ومصاريفه داخل المنزل وخارجه.
ويختتم بخاري حديثه بضرورة الالتفات إلى ما يراه نقطة في غاية الأهمية، وهي عدم تناسب المكافآت الجامعية مع جميع المدن المبتعث إليها طلابنا، مشددًا على أن المبلغ الموحَّد للمكافأة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، لا يراعي اختلاف تكاليف المعيشة من مدينة لأخرى، مشيرًا إلى المبلغ الذي يجعلك تعيش بمستوى مناسب في مدينة ما قد لا يكون كافيًا في مدن أخرى، مستشهدًا بالمدن الكبيرة مثل واشنطن العاصمة، نيويورك، بوسطن، لوس آنجلوس وميامي، التي تُعدُّ من المدن المرتفعة جدًا في مستوى المعيشة من حيث إيجارات المساكن والخدمات وغيرها، مقارنة بالمدن الأصغر مثل دنفر، ويقول بخاري: الطالب الذي يدرس في نيويورك مثلاً لا تكفيه المكافأة ويضطر أن يعتمد على مصدر دخل آخر (مبالغ شهرية من الأهل مثلاً) ويستأجر غرفة صغيرة ليسكن فيها، بينما الطالب في مدينة أصغر، يستطيع العيش بنفس المبلغ ولكن برفاهية أكبر.
ويختتم بخاري حديثه لـ(الجزيرة) باقتراح أن تكون المكافأة مختلفة بحسب المدينة وغلاء معيشتها.
لا للمنافسة في الماركات
خالد الغيث مبتعث إلى بريطانيا لدراسة الماجستير في إدارة المشاريع، يقول: إن التعايش مع الثقافات الجديدة يجبرك على الاختلاف في سلوكك الاستهلاكي، لأنَّ سلوكها الاستهلاكي مختلف إلى درجة أنني أصبحت انتقد الأسلوب غير المنظم والمدروس في الاستهلاك أو الشراء ما قبل الابتعاث، فعلى سبيل المثال: أصبحت اشتري المواد الاستهلاكية الأولية حسب الحاجة الوقتية وكذلك المستلزمات الشخصية، تكون حسب الحاجة فقط، ويؤكد الغيث بأن اختلاف السلوك الاستهلاكي بين البلدين أدى بالنسبة له إلى توليد ثقافة التحليل والتفكير في هذا الجانب، ويضيف: بالتالي وجدت أن الأفراد في بريطانيا يسلكون الجانب الاسترشادي بصورة عقلانية ومنطقية بعيدة عن الفوضوية، والتفكير في كماليات الشراء أو التنافسية مع الآخرين، فعلى سبيل المثال شراء سلعة لا تستخدم إلا في أوقات معينة ومحددة لا توازي قيمتها، وكذلك شراء سلعة فقط لأنّها فقط اسم تجاري معروف (ماركة) دون النظر للحاجة إليها، هذا لا يحدث في بريطانيا، وعن معدل ما كان يصرفه قبل الابتعاث وما يصرفه الآن، يقول الغيث: دعنا نتفق أولاً بأن هناك فرقًا شاسعًا بين المرحلتين، بريطانيا تُعدُّ أغلى معيشيًا من الرياض مقارنة بالدخل أو المكافأة المصروفة، فمثلاً معدل الإنفاق الشهري ما قبل الابتعاث قرابة الستة آلاف ريال تقريبًا وفي بعض الأحيان يكون الراتب كاملاً، لذا لا استطيع أن أحدد مقدار الإنفاق بشكل منضبط قبل البعثة، أما في بريطانيا فمعدل الإنفاق لا يتعدى نصف المكافأة شهريًا وأكون على دراية وحرص تام بما يتم إنفاقه كل شهر بشكل منظم، مشيرًا في ختام حديثه لـ(الجزيرة) إلى أن سلوكه الاستهلاكي الجديد وفّر لها مزيدًا من الحرية إلى حدٍ ما، مبديًا سعادته باكتسابه سلوكيات جديدة وجيدة في الإرشاد وتنظيم الاستهلاك.
حالنا حال بيل جيتس
عبدالرحمن أبو حيمد المبتعث لدراسة الماجستير في إدارة تقنية المعلومات في ولاية وسكنسن بأمريكا، يشارك زملاءه المبتعثين التأكيد على الاختلاف الكبير الذي حدث في سلوكه الاستهلاكي، ويقول في حديثه لـ(الجزيرة): الاختلاف كبير جدًا، ثقافتي الشرائية توسعت، وبدأت أتابع مصروفي من خلال التقرير الشهري بحسابي للبنك لأرى إذا كان هناك زيادة في الصرف وما المبرر المنطقي لهذه الزيادة، في بداية دراستي قررت أن أسكن في السكن الجامعي الذي كنت الأجنبي الوحيد فيه ذلك الوقت، فكنت أذهب للسوبر ماركت مع أصدقائي الأمريكان، وبعد تكرر الزيارات لحظت أنهم يأتون بحد معين ولا يحاولون أن يتجاوزوه في شراء الأغراض، على عكسي أنا الذي كنت أمشي وكأنني اشتري لي ولعائلة كاملة!
ويؤكد أبو حيمد أن الوضع الآن اختلف تمامًا، بل بات يجبر نفسه على إيجاد تبرير منطقي لكل ما يريد شراءه لكي لا يشعر بالحسرة على الدفع فيه، ويضيف: كنت أقول أو أعتقد أنهم يفعلون ذلك فقط بسبب عدم وفرة المال، وبعد فترة من معاشرة هذا المجتمع، وجدت أن تبريراتهم وتحليلاتهم للعملية الشرائية لأي منتج، تشعرني بالسذاجة وعدم تحمل المسئولية، وبدأت أقتنع أن وفرة المال لا تبرر التبذير والتباهي، بل هي محفِّز على أن تحاول إدارته ليكون فيه منفعة أكثر وأكبر مثال عظيم هو بيل جيتس الملياردير المعروف، هذا الرجل أثث بيته كاملاً من العروض المخفض عليها وهو جامع للكوبونات والعروض، ودائمًا ما يشتري بحكمة وحسن تدبير، ويؤكد أبو حيمد على أن سلوكه الاستهلاكي الجديد وفَّر له مساحة كبيرة من الحرية المالية.
ويقول في ختام حديثه لـ(الجزيرة): أنا حريص أن أكون قادرًا على السفر متى شئت، والعيش بطريقة بسيطة في أيام الدراسة كأي طالب جامعي أمريكي من متوسطي الدخل. السفر والاستكشاف من الأشياء التي أهواها منذ الصغر، والحمدلله الآن ألبي كل رغباتي الاستكشافية، عن طريق الإدارة الصحيحة للمصروف الشهري، ولكن في نفس الوقت أنا لا ألوم الشباب السعودي، السلوك الاستهلاكي غير المنظم مشكلة مزمنة في مجتمعنا السعودي وأنا كنت أحد ضحايا هذه المشكلة، ثقافة المجتمع ترعب الفرد من أن يعاب عليه بالتقشف مثلاً، بينما المطلوب فقط هو الوعي فإذا كان رب الأسرة لا يحمل هذا الوعي فكيف نلوم شبابنا وقتها؟!، وما استغربه حقًا هو استمرار الأسر في السعودية على مساعدة أبنائها على اللا مبالاة.
ادّخر ولو القليل
زياد التويجري المبتعث إلى بريطانيا لدراسة الهندسة الكهربائية، يؤكد على أن الاستقلالية التي يمنحها الابتعاث عن النطاق الاجتماعي الضيق والمحيط به في بلاده، يجعله أكثر تدبيرًا لمصروفاته الشهرية من واقع المكافأة المصروفة له، مشيرًا إلى اعتقاده بأن الفائدة تكمن في أن الشخص سيكتسب خبرة أكبر في مجال الاستهلاك الشخصي، فعلى سبيل المثال في بعثته سيبحث عمّا هو فائدة له كطالب بعيدًا عن الاستهلاك المعتاد في السعودية الذي غالبًا لا يعود بالمنفعة للشخص، ويضيف التويجري بأنه وبالرغم من بعض المصاريف الطارئة التي تواجهه أحيانًا إلا أنه يستطيع الادخار من دخله الشهري ويحرص على ذلك حتى وإن كان مبلغًا بسيطًا، مؤكدًا في ختام حديثه لـ(الجزيرة) بأن سلوكه الاستهلاكي الجديد بحدِّ ذاته يُعدُّ حرية مالية بالنسبة له، حيث يصرف له مكافأة شهرية على ضوئها يقوم بتوزيع استهلاكه الشهري.
احسب ألف حساب
ثامر القاسم المبتعث إلى أمريكا لدراسة اللغة، يؤكد على كثرة الفوائد التي يجنيها المبتعث اقتصاديًا من تجربة الابتعاث، ويقول في حديثه لـ(الجزيرة): هناك فوائد كثيرة يكتسبها المبتعث في ضبط معدل الاستهلاك لديه وإعادة ترتيب ميزانيته المالية، فقبل الابتعاث الكثير كان ليس لديه ميزانية بالمفهوم المحاسبي، بل لديه ثقافة الدفع بلا إحساس بقيمة المدفوع، أما بعد الابتعاث فأصبح يحسب للمدفوع ألف حساب كما يقال، لماذا؟! لاختلاف مفهوم المجتمع للاستهلاك، فمعظم الاستهلاك في بلدنا على الكماليات، ومعظم الاستهلاك في بلد الابتعاث على الضروريات، لأنَّ مجتمعات دول الابتعاث تبدأ بالمصروفات الثابتة الرئيسة أولاً، وأما المصروفات الاستهلاكية فشيء ثانوي لديهم، ولهذا تجدهم يهتمون بالخصومات وعروضها ومواسمها وأماكنها، ويضيف القاسم أن ثقافة المجتمعات تلعب دورًا مهمًا في ضبط السلوك الاستهلاكي للفرد، حيث إن صفة الكرم عندنا -والحديث للقاسم- معاشر المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا لها وجودها في المجتمع، وهي صفة محمودة وتتميز بها الشعوب العربية، لكنها في ثقافة مجتمع بلد الابتعاث تكاد تكون معدومة، وهي تستهلك من المعدل الاستهلاكي، خصوصًا في مجتمعنا السعودي، فلا ننظر إلى اختلاف السلوك الاستهلاكي ومعدله، وننسى أن اختلاف ثقافة المجتمعات لها دور في تحديد هذا المستوى من التباين والاختلاف.
المشرف يأتي على درّاجة
بندر العصيمي كان آخر المتحدثين إلينا، يقول بندر المبتعث إلى مانشستر ببريطانيا لدراسة الدكتوراه في الفيروسات وعلاقتها بالسرطان بأن الانتقال للعيش في دولة مختلفة ذات أسلوب حياة مختلف وعملة مختلفة ومعايير اجتماعية وثقافية مختلفة، تجعل أحدنا يعيش أسابيع من ترتيب الأولويات وإعادة صياغتها بناءً على الأسلوب الحياتي الجديد، من المفاهيم التي صعدت لأعلى سلم الأولويات مثلاً هو توفر خيارات للنقل العام هي أفضل بكثير من اقتناء سيارة، وعليها تغّير السلوك الاستهلاكي بناءً على تغير الثقافة، بناءً عليه تتغير أيضًا الإدارة المالية لمكافأة الابتعاث في التفريق بين كماليات الحياة وضرورياتها وهو سلوك جديد أيضًا يُعنى بالتربية الذاتية للمبتعث.
ويؤكد العصيمي على أن أحد الدروس المهمة حقيقة هو إعادة النظر في بعض العادات الاجتماعية فمثلاً مشرفي البروفيسور الباحث في علم الميكروبات يأتي للعمل بالدراجة كل يوم!، مضيفًا بأن الاختلاف الثقافي ينعكس تأثيره على السلوك الاستهلاكي، فالشعب الإنجليزي يُعرف عنه المحافظة وهو شعب اقتصادي وقد يكون هذا عائدًا للغلاء المعيشي وكثرة الضرائب المفروضة من الدولة وكثافة عدد السكان، هذا السلوك انعكس سلبًا على الطابع الاجتماعي لدى الإنجليز نحو نظرة للحياة أكثر مادية فمثلاً عند دفع الحساب في مطعم مثلاً فالثقافة السائدة هي أن كلا سيحاسب عن نفسه، الأمر ليس كذلك في المملكة فقد يستدين أحدهم لإكرام ضيف أو الظهور بنظرة اجتماعية راقية ولو كانت على حساب مستوى دخله المادي، وعن فرص الادّخار في بلاد الابتعاث، والقدرة على ذلك يقول العصيمي: فرصة الادخار هنا أقل بكثير منها في المملكة، نعم قد يستطيع بعض المبتعثين ممارسة حياة يغلب عليها الطابع الإنجليزي المحافظ لتوفير بعض المال، ولكن هذا قد يكون على حساب أمور أخرى كالخصوصية والأمان، فمثلاً السعوديون في الغالب يفضلون الشقق السكنية على البيوت لأنّها أكثر أمانًا وخصوصية، إجمالاً لكل منا اهتماماته فمثلاً توفير مال لهذا الشهر قد يعني قطعة اليكترونية جديدة أو رحلة ترويحية في الشهر القادم.
ويختتم العصيمي حديثه لـ(الجزيرة) بالتأكيد على أن سلوكه الاستهلاكي قد وفَّر له نوعًا من الحرية المالية، مضيفًا: هذه الحرية أظن أنها محدودة بالوجود هنا لارتباط هذا السلوك بثقافة البلد، عمومًا أشعر وكأن الابتعاث مدارس عدة، أهمها هي مدرسة التربية الذاتية وكأن أحدنا يدخل في دوائر أخرى من صياغة الذات وإعادة ترتيب الأوراق ولا شك أن التوازن في السلوك الاستهلاكي أحد أهم تلك الدروس.