وضع الاتفاق السياسي بين تركيا والولايات المتحدة وبعض دول الخليج وفي مقدمتها المملكة خطوطًا حمراء ضد التعامل الوحشي والدموي مع المتظاهرين السلمين، وبدت السلطة في سوريا خارج الشرعية الدولية، بعد أن فقدت شرعيتها بين شعبها، وقد نستطيع القول إن ربيع الثورات العربية دخل مرحلة جديدة من أهم مكتسباتها احترام خيار الشعوب، إذ لم يعد في مقدور السلطات أن تقاوم التغيير السلمي بالسلاح والعنف، ولكن بالإصلاح الذي قد يقنع الجماهير في أن لا تخرج إلى الشوارع، ولكن إن خرجت فلا بد من احترام مطالبها.
الموقف الدولي الموحد ضد أحداث سوريا رفع من سقف التوتر عند بقية الدول العربية التي تحكم من خلال منظومة الاستبداد، ولا بد من البحث عن وسائل أخرى غير العنف من أجل منع الكارثة الوطنية في المستقبل، ومنها أن تضع قوانين لحرية التعبير وإصلاح القضاء ومنع التسلط والمحسوبية والعمل على إحداث إصلاحات اقتصادية وسياسية، ويصح أن نقول إنه لم يعد للاستبداد مكان في العصر الحديث، فالوعي الجماهيري وتطور قنوات الاتصال رفعت من درجة المناعة ضد التعسف، ومن يعتقد غير ذلك فهو يعيش في كوكب آخر.
يأتي إعلان دول مجلس التعاون الخليجي انضمامها إلى التحالف الدولي ضد استعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين في غاية الأهمية، وفي ذلك بيان على أهمية الدور الذي تقوم بها هذه الدول في المحيط العربي، مما يجعلها مهيئة للقيام بدور الزعامة في المرحلة القادمة، لكن ذلك حسب رأيي قد يزيد من الضغط عليها لإحداث التغييرات التي تواكب المواقف النبيلة، وبكلمات أخرى عليها أن تقود المستقبل من خلال تقديم الصورة النموذجية للإصلاح الذي يجعل من الحراك الشعبي في حكم المستحيل داخل حدودها، أي الإصلاح الذي يرفع من مستويات الحرية والشفافية واحترام حقوق الإنسان، مما يجعلها في منأى عن الفوضى، ويعطيها أدوارًا أكثر مثالية في قيادة الربيع العربي.
قد يعيد التاريخ نفسه، فقد قامت بريطانيا العظمى بدور سياسي كبير أثناء المتغيرات الكبرى في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر والعشرين ميلادي، وقادت ربيع النهضة الأوروبية، وكانت دومًا سباقة لإحداث التغيرات الجذرية، فقد قادت ثورة الإصلاح الديني والسياسي، وأسست ثورة صناعية هائلة حولت الحياة فيها من مجرد حياة ريفية وقروية إلى حياة صناعية وتجارية، وبالتالي حظيت بالاستقرار الوطني، واجتازات الامتحانات الكبرى؛ لأنها كانت دائمًا ما تستبق الأحداث الجسام من خلال مواكبة العصر ومتطلبات الجماهير.
خلال العام الجاري قدم المواطن العربي درجة عالية من الوعي فقد استمر يطالب بحقوقه في احتفالات سلمية، وما يجري في اليمن وسوريا وقبلهما تونس ومصر دليل على ذلك، فقد كانت الجماهير الحامي للمصالح الوطنية، كما قدموا صورة مثالية لكيفية التعبير السلمي، وعبثاً حاولت السلطات في تلك الدول استفزاز الجماهير للخروج عن الخط السلمي، لكنها فشلت وظهرت في صورة المجرم الخارج عن القانون عندما تعمدت قتل المتظاهرين في الشوارع، وكانت النتيجة خروجها عن الشرعية.
الاستبداد آفة خطيرة ودمار للأوطان، وظهر للجميع أن الدول العربية التي تحكم بالاستبداد دفعت الثمن غالياً، ويكاد يخلو العالم في العصر الحديث من الأنظمة الاستبدادية في ما عدا الدول العربية وبعض الدول الإفريقية، ولن تستثني رياح التغيير أحدًا في مواجهة الشعوب ضد الدكتاتورية، لكن قد تختلف درجات الظلم والتسلط من دولة إلى أخرى، لكن في نهاية الأمر يظلون في نفس الدائرة المحظورة في عصر الحريات والديموقراطية.
خلاصة الأمر أن المنظومة الخليجية لديها الفرصة الذهبية في أن تقوم بذات الدور القيادي، وأن تستبق الأحداث العظام وتحدث التطور والإصلاح قبل انتقال الحمى الشعبية إلى جسدها، ويظهر للجميع أن هذه المنظومة السياسية تتمتع بالحكمة السياسية للقيام بالدور القيادي لربيع العرب، لكن ذلك لا يمكن أن يكون حقيقياً ومؤثراً بدون تقديم التضحيات التي تأمن لهم جدارة ذلك الدور الحضاري العظيم.