أحمد بن سعد أبو حيمد (ترجمة) - 125 صفحة من القطع الكبير
حري بالثناء وجدير بالشكر أن يعمد أخونا أبوحيمد إلى ترجمة بعض المعطيات الشعرية لشعراء غير ناطقين بالعربية من مبدأ التلاقح بين ثقافتين ومدرستين أو أكثر لأن الفكر الإنساني واحد مهما اختلفت لغاته وتباينت أدبيات شاعرنا اختار إحدى مقطوعات الدكتور لورانس تحت عنوان (سفينة الموت) والتي اصطفاها عنواناً للديوان:
حان فصل الخريف وتساقط الثمر
وموعد الرحلة الطويلة نحو النسيان
كأنما بهذا يرصد مرحلة عمر الإنسان وقد شاخت به الأعوام.. وتعرت أوراق عمره.. وأذن بالرحيل.
التفاح يتساقط مثل قطرات الندى الكبيرة لإيجاد حياة أخرى
حان وقت الرحيل، وتبادل عبارات الوداع لكل واحد منا
لإيجاد مخرج لهذه النفس الواهنة.
لا مخرج لكل هذه الأشياء إلا عبر بوابة الموت لأن شمعة الحياة انطفأت أو كادت.
ابنوا سفينة الموت..
فعليكم مكتوب الرحيل الطويل نحو النسيان
وتجرع كأس الموت الأليم.. الموت البطيء
الذي ينتزع الروح من الجسد..
الموت قد لا يكون بطيئاً بأعراضه.. وإنما عادلاً بأغراضه.. لا مهرب منه ولا مفر.
تساقطت أجسادنا وانتفخت بشكل مخيف
الليل وبحر الرحيل الممتد بلا انتهاء أرواحنا.
أجسادنا تتلاطم بموجات البحر الهائج..
آه.. ابنو سفينة موتكم.. سفينتكم الصغيرة
وافرشوها بملذات الأكل والشراب.
سفينة الموت لا تستقر إلى من يبنيها لأنها قائمة حتى يوم القيامة.. أما المزاد لما قبل الرحيل فعمل خير وصالح يتجاوز حدود الطعام والشراب.. لأنه الرصيد الباقي من العمر.
عند النافذة في الصباح.. للشاعر الكبير ت. س. اليوت.. مفادها:
يهزون أطباق الفطور في مطابخ السرداب
وعلى طول امتداد حافات أرصفة الشوارع
أرى الأرواح الندية
تورق بيأس عند أبواب المدينة
حكاية الصراع بين الثروة.. والجوع.. بين التخمة والحاجة.. بين البأس واليأس.. حكاية صراع أبدي.
موجات الضباب الداكنة
تلامس الوجوه الملتوية نحوي في قاع الشارع
ودمعة من عابر سبيل مرتدياً تنورات موحلة
وبابتسامة تائهة تحوم في الهواء
تختفي من أعالي أسطح المنازل..
عابر السبيل يعني رجل.. والرجل مذكر.. وإذا كان كذلك فإنه لن يرتدي تنورة موحلة لأنها خاصة بالنساء.. أحسب أن الترجمة الأقرب إلى الصحة تتمثل في الآتي:
ودمعة من عابرة سبيل مرتدية تنورات موحلة
يبدو أن الموت هاجس الأحياء وبالذات منهم المفكرون.. والفلاسفة والشعراء .. أنهم يرقبون خطوات الأخيرة من خلال منظار النهاية.. لا من منظور البداية، لهذا اختار دليل رحلتنا الشاعرة كريستينا روزيتي في مقطوعها (عندما أموت):
عندما أموت أحبتي
لا تسبكوا أناشيد الحزن على رحيلي
لا تزرعوا الورد على قبري
ولا حتى على أشجاري.
لماذا ترفض الحزن.. وتأبى أن يؤبنها أحد؟ لأنها صوت حياة لها صفة الدوام:
كونوا مثل عشب أخضر
يمتد بلا انتهاء على قبري كقطرات الندى.
اذكروني عندما كنت بينكم متى شئتم
أو اذكروا بدموع الحزن رحيلي.
هذا ما ذكرتهم به.. أما هي فإنها تكفلت بحالها وفق مزاجها وأخيارها..
لم أعد أصغي إلى تغريد العندليب
غرد أيها الطير تغاريد الألم الأخيرة
انها ترقب بصمت أفقها.. متسائلة مع نفسها (هل سيذكر جسدها إذا ذبل وقد ماتت؟!
شاعرنا الثاث (أدموند سبنسر) عبر قصيدته في مسرح الحياة:
في مسرح هذه الحياة حيث نعيش
جلست محبوبتي كسولة مثل المتفرج
تشاهدني أؤدي جميع أدوار المسرحية
مخفياً أفكاري النفيسة المتعددة..
أية أفكار عناها ادموند؟!
ابتهج في بعض الأحيان عندما تحين مناسبة سعيد
لابساً قناع البهجة كما في الملهاة
لا جديد في ابتهاجه.. كل الناس ينشدون السعادة.. ويفرحون بمناسباتها.. ولكن..! ولكن.. عندما يطير فرحي إلى حزني
سرعان ما أبكي وأغير أدواري إلى المأساة
ومع ذلك تشاهدني بعين ثابتة
مسرورة ليس لفرحي.. ولا عطفاً على ألمي
وعندما أضحك تسخر مني وعندما أبكي
تضحك.. قلبها قاس للأبد
حيرته من محبوبته التي لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب ساقته إلى التساؤل المر:
إذاً ما الذي يستطيع إثارة شعورها؟!
إذا لم تكن البهجة. ولا الحزن.
إنها ليست امرأة ولكنها حجر بدون إحساس
وفي البشر الكثيرون ممن ماتت أحاسيسهم.. وتبلدت مشاعرهم إلى درجة التجمد.
(ذكرى) مقطوعة (إمليلي برونتي) تقول كلماتها:
عندما أكون وحيدة عند ذلك الشاطئ الشمالي
لم تعد أحلامي تعانق قمم الجبال، وشواطئ بؤسي
تخفض همساتي أجنحتها..
فتعانق قلبك الطيب للأبد
يا حبي البالغ اغفر لي إذا ما نسيتك تحت الثرى
اغفر لي إذا ما غمرتني أمواج العالم
وأصبحت الأمنيات والآمال مثل حلم سرى
رثائية حب من محبة لحبيب افتقدته ولم تفقد برحيله وفاءها له.. وعذابها بغيابه إلى درجة اليتم..
عندما أتجرع مرارة الألم..
كيف لي البقاء من غيرك في هذا العالم الفارغ
لأنه توارى عن حياتها تراءى لها أن العالم الذي يعج صخباً بسكانه يعود مساحة فارغة وخاوية لاشية فيها..
ومن محطة (الذكرى) إلى بنمات حيادية (لتوماس هاردي):
تربيتنا في يوم شتاء بجانب بحيرة
حيث كانت الشمس تشع ضياء
أوراق الشجر تتساقط على الأرض المقفرة
كأن عينيك في قطري أعين متجولة
في تلك الأحاجي المملة لسنوات عابرة
تهامسنا ببعض الكلمات.. فقدنا الكثير من حجانا
سنوات عجاف مليئة بالأحاجي المملة لا تصنع حباً.. ولا تشبع قلباً.. الحب يبدأ من الداخل من عاصفة العقل وليس عاطفة القلب وحده.
وطافت ابتسامة عريضة من الألم
كأنها خير ينشد بالحزن والمرارة
كانت ابتسامة كاذبة أشبه بالديك الذي يرقص أحياناً من الألم..
ومنذ ذلك الحين تشكل بالألم مظهري
وما برحت أوراقه الذابلة المتناثرة من حوله تحيط بتلك البحيرة الصامتة.
غادرنا بحيرة الحب الفاشل.. أخذنا فارس رحلتنا أحمد أبوحيمد نحو محطة قطار أنفاق حيث (عزز اباوند) واقفاً هناك يملي كلماته:
مظاهر تلك الوجوه في الزحام
بتلات على فصل ندي أسود
اختزن في شطريه الوحيدين شكواه من صخب المدن.. من الفوضى ومن الضوضاء في أطنابها.. الوجوه كما شاهدها مجللة بسواد الإجهاد والتعب والضيق كما الفصل النفس العاري الذي امتصه الجفاف والتصحر.. هكذا يرمز ويشير إلى العالم الذي يتحكم فيه دولاب الحركة التي لا تهدأ ودون توقف.. ولا تسمح للفرد فيها استعادة أنفاسه وإحساسه..
(صديق الليل) للشاعر (جميس جويس) حيث يرسم حالته من خلال عدسة رمادية لا تشتهي:
إني أسمع صوت المطر يلثم الضجر
صوتاً حزيناً كطير البحر
عندما يحلق في الأجواء في الآفاق بعيداً
يصغي للرياح تبكي إلى الصدى
إنه يعتمر دهشته.. ووحدته.. بعد أن لم يجد له صديقاً ولا رفيقاً إلا الليل.. والويل لمن كان الليل بظلامه ظلاله للوحشة رفيقه!!
رياح رمادية. رياح باردة
تهب إلى حيث انثر الخطى
أظل وحيداً طوال الليل
أسمع وقع المطر
يسمعها على وقع دقات قلبه الذي يبحث عن شيء ما لم يفصح عنه.. وأخاله الحب.. والقلب دليله..
ولأنني لم أستطع التوقف للموت (للشاعرة) (اميلي ديكنسون):
فخورة أنا بقلبي الكبير طالما أنني لم أكسره
فخورة أنا بالألم الذي يعصرني
طالما أنني لم أصنعه
فخورة أنا بليالي السهد الطويلة
فقد تحملتها بدون أخمار
وفي مقطوعة ثانية تقول:
لأنني لم أستطع التوقف للموت
تلطف هو، وتوقف لي..
حملتنا الغربة وحدنا فقط برفقة الخلود
وتركت جانباً تعبي. وفراغي معاً من أجل تأدبه..
بهذا المنظار اليقيني عاشت الواقع كرحلة ومرحلة لا تقبل التذمر.. ولا القنوط.. إنها ترى الحقيقة ولا تتجاوزها.
وتمضي أميلي ديكنسون في سرد رؤيته للحياة محملة بذكرياتها جامعة بين الرومانسية التصويرية رغم أنها اختارت لنفسها وحدة بعيدة عن مشاغل الآخرين ومشاكلهم.. إنها تقول:
مررنا بالمدرسة حيث الأطفال يلعبون
أثناء الفسحة في ملعب الرياض
مررنا بحقول القمح المحملقة
مررنا بالشمس الغاربة..
بهذا الإيقاع والرتم الجميل رسمت لنا صورة بانورامية الحلم فيها إطار.. والحركة فيها لا تقبل العثار
هكذا الشعر.. وهكذا الشعراء غرب وعرب إنهم يتقاطعون رؤيتهم للحياة حيث هي تجربة إنسانية تتعامل مع المواقع حيث هو.. فلا سعادة دائمة ولا شقاوة دائماً إنما المزج بين حالتين متضادتين لا بد من مذاقهما.. والبوح بما أفرغه ذلك المذاق من خلال شحنة تعبيرية وتصويرية يتنفس من خلالها طرحاً لفرحه.. أو حزنه.. تشاؤمه أو تفاؤله ..المبدعون وحدهم هم الذين يجيدون رسم الصورة جميلة ومعبرة دون طلاء ولا مساحيق.. لأن جمالها في عذريتها.. وفي عفويتها.. إلى هنا وتنتهي الرحلة مع سفينة الموت وأخواتها.. وإلى لقاء متجدد إن كان في العمر بقية..
الرياض
ص ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس 2053338