قال أبو عبد الرحمن: أسلفتُ مجملاً من فلسفة (هيوم) و(هوبز)، والآن أريد الانفراد بكلِّ واحدٍ منهما استكمالاً لفلسفته في الحرية، ومداخلةً له بالوقفات؛ فأما الفيلسوف الإنكليزي الأُسكتلندي ديفيد هيوم [1711 -1776م] فهو من أركان المذهب التجريبي الذي هو البذرة الأولى المريضة في الفلسفة الحديثة للحسبانية؛ لأنه إسقاطُ ما هو معروفٌ من الواقع المغيَّب - وهو علم لا يساوي فيه العلمُ بما هو مشاهَدٌ حَبَّةَ خردل على وجه المعمورة كلها (1) -؛ ولهذا كان ديفيد ملحداً لجوجاً؛ ولهذا أيضاً قابل براهين العقليين بالدعاوى المجرَّدة وبافتراض الحسبانية، واقتصر علمه في نظرية المعرفة على ما يعرفه الحمار مُباشرة بحسِّه الظاهر والباطن، والآدميُّ مُمَيَّز على الحمار بالعقل؛ فأهان (هيوم) كرامة العقل بالحسبانية التي هي افتراضٌ ودعوى؛ فضروراتُ العقل عنده افتراضاتٌ غير يقينيَّة، بل هي مُـخْتَرَعة؛ لأنها لا تعتمد على التجربة.. ومذهبُ هيوم في المعرفة هو البذرة المريضة في نقديه أَمَّانوئيل كانط التي يصفونها بأنها فلسفةٌ توفيقيَّة؛ وإنما هي تلفيقيَّة بالمغالطات، وللحديث عن الحرية عند كانط مباحث خاصَّة أرجو أن ترى النور قريباً إن شاء الله سبحانه وتعالى؛ فباسم النقدية أصبح كانط ملحداً منافقاً، وكان هيوم ملحداً مجاهراً رقيعاً.. ومذهب ديفيد [أي داوود] هيوم جانبٌ فرعيٌّ من مذهبه في الاستاطيقا (الجمال والأخلاق)، وهو يشترك مع جون لوك وهوبز في دعوى أن حرية الإنسان حتمية نفسية!!.. ومعنى هذا الكلام أن هذه الحرية غير مُقَيَّدة من خارج النفس، ولكنها بواعث داخلية من نفس الفرد.. والأخلاق التي هي من مطالب الحرية لا يُثبتها العقل من طريق التجربة، وإنما هي مُعْطىً للعاطفة التي هي الدافع النفسي، وهذه العاطفة عند هيوم ليست خيِّرة، بل هي: إما تحصيل لذة، وإما اتِّقاء ألم.. والعدالةُ إلى عهد هيوم حقٌّ مُسَلَّم به لدى الجمهور، وهي تحبس حرية اللذة عند هيوم؛ فلما جُوْبِهَ بها -لأن بناء المجتمعات لا يقوم بدونها - ردَّها إلى عاطفة اللذة؛ فزعم أنها تعاطفٌ بين الإنسانية؛ لتحقيق سعادةٍ طويلةِ الأمد، وطول الأمد بالنسبة للمجتمعات لا الفرد.
قال أبو عبدالرحمن: القاسم المشترك للمعرفة البشرية هو إثبات شيئ (الحق)، أو نفي شيئ (الباطل) سواء أتعلَّق الحكم بهوية الشيئ حسبما حصَّله العقل من الخبرة الحسِّية، أو تعلَّق بوجود علاقةٍ أو علاقاتٍ بين هُويَّتين أو هُويَّات، أو استنباط فوراق؛ وهذا يَعُمُّ ما يتعلَّق بالإنسان في مشاعره من لذَّةٍ وألمٍ ومنفعة، وما يتعلق بالأشياء خارج الفرد، وهذه هي (قيمة الحق) التي يقوم عليها بناءُ المعرفة؛ وبالتأصيل في نظرية المعرفة مُيِّزتْ الاستاطيقا في الأخلاق والجمال عن عموم نظريَّة المعرفة (وهي داخلةٌ فيها) بحكم أن أحكامها تتعلَّق بالفرد نفسه لا من خارجه.. ثم قسَّموا الاستاطيقا إلى (واجب) وهو علم الأخلاق، وإلى ما هو (سبيلٌ إلى أداء الواجب بإتقان) وهو علم الجمال؛ وبما أن الاستاطيقا ذات علاقةٍ راسخةٍ بالحرية الهيومية لزمتْ إلمامةٌ بمذهبه في علم الأخلاق والجمال، وهما الثنائية والنقائض بين أربع مفردات هي: الخير، والشر، والجمال، والقبح؛ فالأخلاق عنده ليست معياراً ذا موضوع يتعلق به الحكمُ ثابتَ الوجود؛ وإنما الأخلاق سلوك يُمدح أو يذمُّ إذا تجاوز الفردَ إلى الآخرين؛ لأنه تعاطفٌ إنسانيٌّ أنتج منفعةً اجتماعيةً ترتدُّ هذه المنفعة إلى الفرد نفسه؛ فيستمتع بلذَّةٍ ذات أمدٍ.. ثم يضع استدراكاً يحتاج إلى دِقَّةِ فَهمٍ، وهو تفريقه بين العاطفة وحبِّ الذات، والأخلاق تنبع من العاطفة لا من حب الذات، ولو نبعتْ من الأمر الأخير لكان ذلك حكماً عقلياً تجريبياً، بينما العاطفة شعورٌ فعَّال مقرُّه القلب لا العقل، وفسَّر هذا الفارق بهذه الأسطر: ((كذلك لا يستطيع العقل أن يفسر الغايات النهائية كما يتضح هذا من السؤال التالي: (لماذا تمارس الرياضة؟)، فإن قيل: (من أجل الصحة) فيقال له: (ولماذا الصحة؟)، فإن قيل: (من أجل إمكان العمل) فيقال له: (ولماذا العمل؟)، فإن أجاب: (من أجل الحصول على المال) فيقال له: (ولماذا الحصول على المال؟)، فإن أجاب: (من أجل إشباع اللذات) فإن السؤال هنا ينقطع؛ لأنه لا يمكن أن نُبَرِّر (2) عقلياً إشباعَ اللذات؛ وإنما العاطفة وحدها أو الشعور هو الذي يستطيع تبرير ذلك، وهكذا الحال في الأفعال الأخلاقية لا تُبَرَّر بالعقل، بل بالشعور أو العاطفة) (3).. وهيوم بمغالطاته حريصٌ على عزلِ الأخلاق (التي هي مطلبُ الحرية) عن المعرفة على أنها شعورٌ عاطفيٌّ لا غير، وهذا مثالٌ آخر لتسويغ هذا العزل؛ فالطَّبَقُ الاخن يسقط من يدي؛ لأن السخونة ألمٌ مباشر من الطبق الساخن، كما أن خوفي من الألم يمنعني من لمس طبقٍ أعتقد أنه ساخن؛ فهذا شعورٌ غيرُ مباشَرٍ بالألم، ويقرن بذلك أن السخونة مؤلمة؛ ولهذا استطاع اعتقادي سخونةَ الطبقِ أن يؤثِّر على سلوكي (4).
قال أبو عبدالرحمن: انظروا أيها الأحباب كيف جعل هذا الأغلف الأخلاق بأحكام العقول والشرائع في نصاب الشعور بألم السخونة؛ ولهذا حكم بأن العقل في نفسه لا يؤثِّر على السلوك، ثم حكم بأن تأثير العقل غير مباشر؛ وذلك باكتشافه الوسائل التي تُشيع فينا عاطفةً ما، وهي الانطباعات الثانوية السارة أو غير السارة، أو اكتشافه وجودَ شيئ ما يثير مثل هذه العاطفة (5).
وفي نفيه تمييزَ العقلِ بين الخير والشر استدلَّ بتأثير الأخلاق (أي اللذة والألم!!)على السلوك وعَجْزِ العقل عن ذلك.. واحتجَّ بحجَّةٍ غامضةٍ جداً سأُبسِّطها إن شاء الله في الوقفات، وموجزها أن عمل العقل اكتشافُ الحقِّ أو الباطل فقط، وليس من قدرته الانتقال مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون (6).
قال أبو عبدالرحمن: فلسفةُ هيوم في الحرية مشحونةٌ بالمغالطات؛ ولهذا ستطول وقَفَاتي معها، ثم أُثَـنِّي بحديثٍ عن (تحقيق المعرفة قبل فلسفة الحرية)، وأما الوقفات فكما يلي:
الوقفة الأولى: أنني أستخدم مصطلح الاستاطيقا مع أنني أراه زائداً على الحاجة، وكثرةُ المصطلحات لغير ضرورةٍ تُشتِّت الفكر البشري.. كما أنني أرى معناه منذ وضعه ثم ما تلا وضعه غير جامعٍ ولا مانع؛ وإنما استخدمتُه مُؤقَّتاً على لغة القوم، والجمال وعلومه وفنونه مفرداتٌ معروفةُ المعنى؛ فما الحاجة إذن إلى مصطلح الاستاطيقا؟!.
والوقفة الثانية: أن كثرة الاستعمال جَرَتْ على اختصاص الاستاطيقا بالجمال فقط، وقد أدخلتُ في هذا المصطلح الأخلاق على مذهب الأقلية؛ لأن مذهب هيوم في الأخلاق يجعل الجمال في نصاب الأخلاق؛ إذْ مذهبُه (7) صدورُ الأخلاق عن مشاعر اللذة والألم.
والوقفة الثالثة: أنه مُصْطلحٌ جَمَعَ كلَّ مساوئ الاصطلاح؛ فهو لغوٌ لا حاجة إليه يُغني عنه معاني الشعور والنفس والجمال، وهو غير جامعٍ ولا مانع، وهو مع كل هذا مُلبسٌ مُضلِّلٌ.
والوقفة الرابعة: أن هذا الاصطلاح تبرَّع به بومجارتن [1714 -1762م] عام 1750م للدلالة على إدراك الجمال، ثم حدثت اختلافات جزئية في معنى الاستاطيقا منذ فنكلمن [1717 - 1768م]، إلى مَن بعده من عموم الفلاسفة ومن المختصِّين بالدراسات الجمالية، ومهما كان بينهم من اختلافٍ فإن ركيزَتهم الإدراكُ بالشعور الباطن.. وهو اصطلاحٌ غير جامع؛ لأن بومجارتن أخذه من كلمةٍ خواجيةٍ تدلُّ على الإدراك الحسي، ولا ريب أن الإدراك الحسي أعمُّ من الشعور الباطن.. هذا من جهة اللغة، وأما من جهة حقيقة الجمال فهو شعورٌ باطنيٌّ بلا ريب، ولكنه لا ينفصل عن المحسوس (الموضوع الخارجي) الذي أثار الشعور بالجمال، ولا ينفصل عن المعرفة العقلية التي تُصنِّف المشاعر وَفْق رُتَب مَن يشعرون بجمال الموضوع من جهة ثقافتهم وأخلاقهم وتديُّنهم سلباً أو إيجاباً.. ولا ينفصل عن المعرفة العقلية التي تُصَنِّفُ مواصفات ما هو جميل (الموضوع الخارجي) عند كل فئةٍ من الناس، ولا ينفصل عن المعرفة العقلية من جهة الحكم كالأجمل لارتباطه بِرُقِيِّ الثقافة.. والأجلِّ لارتباطه بصحة الدين، وفضيلة الخلق، وقوة الفكر.. والأنفع الذين يستهين بمحضيَّة الفن ويُرحِّب بمحضيٍّ مُؤقَّت يكون استراحةً من أجل النشاط لعملٍ نافع.. ولا ينفصل عن المعرفة العقلية؛ لأن الإدراك الحسي لا يحصل إلا بحضور العقل؛ ولهذا كله كان اصطلاح الاستاطيقا غير جامع.
والوقفة الخامسة: أن معيار (الحق) شاملٌ لمعيارَيْ الأخلاق والجمال؛ وبهذا يكون الحقُّ والخير والجمال معايير مُختلفة في النوعية، ومآلُها كلها إلى إدراك العقل وأحكامه ومصادر معرفته من الحسِّ الظاهر والباطن.
والوقفة السادسة: ذكر هيوم الأخلاق بوصفٍ يتناول غيرَ ما حدَّده في سياقه؛ فالأخلاق عنده سلوكٌ يُمدح أو يُذمُّ إذا تجاوز نفعُه الفردَ إلى الآخرين؛ ولهذا فالأخلاق عنده ليست ذات حكمٍ ثابتٍ إلا بمقدار ما تتعدى إلى الآخرين؛ فهذه مغالطة شنيعة؛ فأنت تمدح شجاعة زيد الذي هو عدوٌّ لك وقد بطش بقومك؛ فأي نفعٍ من زيدٍ حصل لك حتى تمدحه؛ إذن فأنت تمدح صفةً فاضلةً تحلَّى بها زيد؛ لأنها حكم ثابت.. وأما صفاتُ الرب سبحانه وتعالى فنفعها يكون به قيامُ المخلوقات؛ ولهذا كان حمدُك لله مدح له بجلال صفاته، وشكر له على آلائه الصادرة عن أسمائه الحسنى؛ ففي سورة الرحمن نجد تكرار قوله سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بين آيات الوعد والإيعاد، وذلك أن شكر آلاء الله عامَّةٌ الكافرَ والمؤمنَ؛ فالمؤمن يشكر ربه على الهداية - هداية التوفيق والإعانة -، وعلى نتائجها التي بلَّغته النعيم والرضوان، وأمَّنته من عذاب الله، والكافرُ مُعَنَّفٌ إذْ جحد آلاءَ ربه -وسيُؤمِنُ بها على الرَّغم منه في اليوم الآخر -، لأن الله أقام عليه الحجَّة برحمته بالهداية الكونية والهداية الشرعية البيانية، وسيجد عمله حاضراً، وسيرى أن الله عامَلَهُ بعدله، وأنه جَحَدَ نعمة ربه في الدنيا بالهداية الشرعية والكونية؛ وإنما يُعرف الشيئ بنقيضه وأضداده.. ألا ترى أن (الحق) الذي هو المعيار الأعم ليس له نقيض إلا الباطل؛ لأن الحق ثبوت ما هو في الواقع من هُوِيَّة، أو حكم هُوِيَّة، أو علاقة أو فارق بين هُوِيَّتيْن أو هُوِيَّات. والباطل ما هو منفيٌّ في الواقع من تلك الأشياء، والضلال ليس هو نقيض الحق، ولكنه نتيجة؛ ولهذا جعل الله الضلال مقابل الحق في قوله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (32) سورة يونس؛ لأن مَن تمسك بالباطل ضلَّ عمداً عن الحق، وسيُضِلُّه تمسُّكُه بالباطل عن حقٍّ كثيرٍ فيما يُستأنفُ من حياته إن لم يتراجع.
والوقفة السابعة: أن الرحمة من أكرم الأخلاق الفاضلة؛ فمن رحم كلباً يلهث من الظمإ فنزل في البئر ليسقيه: فأي منفعة تناله من الكلب -بناء على مذهب هيوم الإلحادي -ما دامت الأخلاق عنده إذا تجاوزت الآخر تكون تعاطفاً إنسانياً يُنتج منفعة اجتماعية، والكلب ليس من الأناسي؟!.. أما المؤمن غير المُسَفْسِط سفسطةَ هيوم فيرى الرحمة إجمالاً غريزة في شعوره قبل أن تتلوث فطرة مَن ضل بالباطل؛ فهذا وجود ثابت بالحس الباطن، وتهتز أريحيته إذا رأى مَن يرحم غيره، فهذا وجود باطني آخر، وتطيب نفسه وتلتذُّ إذا صدرت عنه مَرْحمةٌ؛ فهذا وجود باطني ثالث.. وهو يرى آثار الحياة الكريمة في مجتمع يسوده التراحم -وإن كان هو خارج ذلك المجتمع، بعيداً عن منافعه -؛ فهذا وجود حسي ظاهر.. ثم جاء الشرع المطهَّر الثابت روايةً ودرايةً مُرتِّباً النعيم الدنيوي والأخروي على مكارم الأخلاق، وما آمن المؤمن بالشرع إلا ببراهين الله في الآفاق والأنفس؛ فأي ثبوتٍ للأخلاق بعد هذا الثبات بكل المعايير الثلاثة؟!.. والمؤمن مع غريزة الرحمة في قلبه يرجو المنفعة في الآخرة؛ وبهذا الرجاء تتميز العادة ويتميَّز الرياء عن العبادة النافعة.
والوقفة الثامنة: أنَّ ما سماه هيوم تعاطفاً إنسانياً يُنْتِجُ منفعةً اجتماعية؛ ليستمتع الفرد من مساهمته بلذةٍ ذات أمد: إنما هو حقيقة وضعية بشرية وليس حقيقة واقعية بالنسبة للملحد الذي لا يفعل الخير إلا لمنفعة تناله في دنياه المحدودة.. وأما المؤمن فيستثمر هذه المنفعة في عمره المحدود، عالماً بأن هذه المنفعة نتيجة حتمية، ولكنَّ باعثه رجاء رضوان ربه ونعيمه في الآخرة وإن لم يحصل له نفعٌ دنيوي كسقْيه الكلب؛ ولهذا يحرص المؤمن على إخفاء حسناته إذا لم يوجد مَفرٌّ من إعلانها.. وسواءٌ أَوَصَفَ هيوم المنفعة باللذة أو لم يصفها فالمؤمن ذو النظر المعياري يفعل الواجب لأنه واجب؛ فإن حصلت له لذَّةٌ في دنياه فهي من نعيمه العاجل، ولكن باعثه النعيم الآجل.. وكل فعلٍ للواجب وتركٍ للباطل يُنتج لذَّة؛ ولهذا كان الكريم طروباً.. والعلم حصيلة فكرٍ وحسٍّ وتجربةٍ وقراءة، وأحكامه التجريبية (تنازلاً مع مذهب هيوم من أجل إلزامه): حقٌّ ثابتٌ في الواقع وله لذَّة، وقد قال الإمام الفحل أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: ((لذَّةُ العالم بعلمه)).
قال أبو عبدالرحمن: قد جَرَّبتُ هذا مدى عُمري؛ فلا شيئ ألذُّ من اكتشاف الحقائق، والاستيلاءِ على ظُلَمِ الباطل، وتراسلِ المعارف تصوُّراً وحُكْماً وحافظةً وتذكُّراً.. وإذا حقَّق طالبُ العلم هذه الأشياء دَفَعَتْه اللذة إلى المبادرة بنشرها لتكون مقروءة أو مسموعة.. ولقد بيَّن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه (مداواة النفوس) أنَّ قصْدَ كلِّ ذي وِجْهةٍ في دنياه طَرْدُ الهم -وهو أخصُّ من عموم الألم -، وجَلْبُ اللذة؛ إذن العبرة في التمييز بين الأشياء أن يُذكرَ ما هو من خصائص الشيئ.
والوقفة التاسعة: أن هُيُومَ فرَّق بين اللذة وحبِّ الذات [بل النفس] بمحاورته التي أسلفتُها، والآن أعود إلى تحليلها؛ فهو يحاور من قال: (أُمارسُ الرياضةَ من أجل الصحة) بسؤالٍ آخر هو: (ولماذا الصحة؟).
قال أبو عبدالرحمن: الصحة في نفسها لذَّة، وهي منفعةٌ تدعم النشاط؛ لينتقل إلى العمل النافع بعد تحصيل الصحة.. ثم استمرَّ في الاستدراج لمن قال عن الصحة من أجل إمكان العمل بقوله: (ولماذا العمل؟).
قال أبو عبدالرحمن: العملُ تعبٌ وعناءٌ وكدْح، ولكنه خصلةٌ فاضلةٌ من أجل كَفَاف النفس، ومنفعة المجتمع، وعمارة الأرض؛ فهو وسيلةٌ لا غاية.. ثم استمرَّ في الاستدراج بقوله لمن قال: (العمل من أجل الحصول على مال).
قال أبو عبدالرحمن: المالُ في نفسه لذَّةٌ لمن كانت مَقاصده جمع المال؛ فهو يلتذُّ بتقليب صِرَّته، أو بمراجعة حساباته في البنك، وأما المؤمن المعياري فليس المال لذَّته؛ وإنما لذَّتُه بما ينتجه المال من إحسان، وكَفَافِ نفسٍ وولد، وإقامةِ مرفقٍ في سكنه ومتجره ومزرعته، وقد لا يكون غرضه المال في نفسه، بل التوسعة على أهله وولده ومن يَفِدُ عليه من قريبٍ وصديقٍ وضيف، وما يَفِدُ على مزرعته من أطيارٍ وحيواناتٍ للسقي والظل والغذاء.. ثم استمرَّ في الاستدراج لمن قال إنه يريد المال من أجل إشباع الذات [بل النفس]؛ ليقطع بالاستدراج على أن الأمر عائد إلى طلب اللذة.
قال أبو عبدالرحمن: إشباع النفس باللذات حبٌّ للنفس التي تلتذُّ؛ فلا فارق مؤثِّر في هذا السياق بين حبِّ النفس وطلب اللذة لها كما زعم هيوم.. وإشباع النفس باللذات بالنسبة لرؤية هيوم مقصورة على الاستمتاع الدنيوي المحدود؛ لأنه لا يؤمن بالله واليوم والآخر؛ وإنما الفارق المعياري بين حُبِّ النفس وطلبِ اللذة: أنَّ حبَّ النفس يدفع إلى طلبِ لذَّةٍ قصيرةٍ جداً ولكنها تُنهِك الجسد أو الروح وتَغْطش الفضائل بالنسبة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.. ولذَّةٍ هي نتيجة فضيلة كريمة، ولذَّةٍ مُدَّخرةٍ له في الآخرة، ولذَّةٍ حصلت له من توفيق الله له على قمع لذائذَ مهلكة، ومن تلك اللذة شُكْر الله وتقديسه الذي يجعل النفس دهناءَ يضيع فيها الهمُّ والقلق كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (125) سورة الأنعام، وقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (22) سورة الزمر وبعد ذلك كلِّه فطلبُ اللذة قاسمٌ مشتركٌ لكلِّ وِجْهَةٍ يتَّجه إليها الإنسان في حياته؛ فليست اللذة خِصِّيصةٌ تتميَّزُ بها الأخلاق دون غيرها.. وحبُّ النفس لذَّةٌ معيارها الشرُّ والباطلُ والقبحُ إذا أرادها على حساب غيره، وعلى حساب الدين والواجب، وكانت مُدَمِّرةً للقوى في الجسد والروح والعقل.. ولذَّةٌ معيارها الحقُّ والخيرُ والجمالُ إذا كانت وَفْق الدين الجامعِ كلَّ المعاييرِ الثلاثة.. وحبُّ النفس متلاحمٌ بين أمرين هما الشدُّ والجذب بين الطاعة والمعصية؛ فليتذُّ بالطاعة في آنه وفي استشرافه، ويتألَّم بعد اللذة بالمعصية إن كان قلبه لم يُرَنْ عليه عقوبةً له؛ فالمؤمن بين رَغَبٍ ورَهَبٍ كما قال تعالى عن يحيى وأهله عليهم وعلى جميع أنبياء الله ورسله سلام الله وبركاته: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء.
والوقفة العاشرة: أنه مضت لي إشارات لدحض فِرْيةِ هيوم أن الأخلاق غير معلومةٍ ولا مسوَّغة بالعقل؛ ولذلك مجالٌ أرحب في البحث عن تحقيق المعرفة قبل فلسفة الحرية.
والوقفة الحادية عشرة: أنه من سُخْف المغالطات في الفلسفة الهيومية إدراجُه كلَّ طلبِ لذَّةٍ ودفعِ ألمٍ -وهما القاسمان المشتركان في كلِّ توجُّه - في الأخلاق؛ فكيف نعدُّ سقوطَ الطبق من اليد مباشرة من أجل سخونته فضيلةً خُلُقيَّة؟!.. لقد أضحك هيوم شيطانه بِمَلْءِ شدقَيه إلى أُذنَيه إن كان له شدقان وأُذنان.. ولستُ أدري ولا غيري (من الأذكياء، والأغبياء، وبين وبين) كيف يكون سلوكُه في سقوط الصحن وهو سقط مباشرة بالضرورة لا بإسقاطه؟!.. وهكذا بسلوكه في الامتناع مِن لَـمْسِ طبقٍ يعتقد أنه ساخن: كيف يكون هذا السلوكُ داخلاً في الأخلاق؟!.. بل قد يتحمَّلُ الإنسان -حسب القدرة بإطلاق حتى يصل إلى بيته - سخونةَ الطبق، وقد يتحمَّلُها بمقدار ما يضعه سوياً على الأرض؛ من أجل حِفْظِ ما في الطبق من نعمةٍ ينتظرها فقراء أو ضيوف في بيته؛ فهذا هو السلوكُ الخُلُقِيُّ الكريم لأنه رحمةٌ، ولأنه تكريم للنعمة.
والوقفة الثانية عشرة: أنَّ حكمه السفسطائي بأن العقل غير قادرٍ على الانتقال مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون: مذخور للحديث عن علاقة الحرية بالمعرفة.
والوقفة الثالثة عشرة: أنَّ هيومَ حكَم بأنَّ المجانين يستمتعون بالحرية أكثر من استمتاع العقلاء.قال أبو عبدالرحمن: صدق الأحمق فيما يليق بحسبانيته التي لم تُفرِّق بين حريةٍ معيارية وغير معيارية.. وصدق الأغلف فيما يليق بإباحيته.. ويشارك المجانينَ الحميرُ إذا شبعتْ صمعاءَ مُغيِّبةً خطر الذئب؛ فإنها تسرح وتمرح وينزو بعضُها على بعض!!.. فهل هذا السلوكُ غيرُ المسؤول هو الحريَّة التي يستعدُّ الفكرُ لتأصيلها؟!.. ألا إنَّ الجنونَ فنونٌ.. وكلامُه عن العدالة سيجرُّ بأسطرٍ قليلةٍ إنْ شاء الله تعالى إلى الحديث عن (العَقْدِ الاجتماعي)، وإلى لقاءٍ بحولِ الله سبحانه وتعالى وقوَّته، والله المستعان وعليه الاتكال.
وكتبه أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه -
(1) قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا إحصاءً رياضياً استقرائياً حاصراً، ولكنه أقصى ما يُستطاع التعبير به عن كونِ العقل عاجزاً عن تصوُّر سعته.
(2) قال أبو عبدالرحمن: لم يرد في اللغة (بَرَّرَ) بمعنى (سوَّغ)، ولكنها صحيحةٌ مجازاً؛ لأن البِرَّ مسوِّغٌ.
(3) موسوعة الفلسفة للدكتور عبدالرحمن بدوي 2 -617 - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الأولى عام 1984م.
(4) الموسوعة الفلسفية المختصرة [نقلها عدد من الأساتذة من اللغة الإنكليزية إلى العربية بإشراف الدكتور زكي نجيب محمود] ص 531 / دار القلم ببيروت.
(5) المصدر السابق ص 531.
(6) المصدر السابق ص 531 -532.
(7) قال أبو عبدالرحمن: (إذْ) ههنا ظرف للزمان الماضي تُفيد التعليل، والتقدير المبدئي: (وسببُ جَعْله الأخلاقَ في نصاب الجَمال زمنُ مذهبِه).. والخبر في لغة العرب محمولٌ يفيد وَصْفَ المحمول المحمولِ عليه الذي هو المبتدأُ، ومذهبه في هذه الجملة موصوفٌ بالخبر الذي هو صدورُ الأخلاقِ عن مشاعر اللذَّة، ودلَّ على تقييد الزمنِ بالماضي أن الجملة حكايةُ مذهبِ رجلٍ ميِّت؛ فإذا أُطْلقتْ الحكايةُ دَلَّتْ على ماضٍ استقرَّ عليه مذهبُ المحكيِّ مذهبه. قال أبو عبدالرحمن: انظروا عبقرية هذه اللغة في الشمول مع الإيجاز؛ إذْ أغنى السياقُ، وكُليمةُ (إذْ) عن كل السطور التي أسلفتها.. والمحقَّق عندي أن (إذْ) للزمن بإطلاق، والسياق يحدِّد كونه للماضي أو الحاضر أو المستقبل؛ فمن دلالتها على المستقبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (4) سورة الزلزلة.