مثلما تابع العالم كله حكم الإعدام وتنفيذه بحق (صدام حسين) تابع الجلسة الأولى لمحاكمة (حسني مبارك) وانفضَّ سامر القوم المتابعين للحدثين المثيرين عن خلافات حادة في وجهات النظر تتسع هوتا بقدر ما تنداح دائرة في صفحة اليم يرمي فيه بالحجر، إذ لكلٍّ قراءته ومناطاته ومحققات خطابه.
وصدام الظالم المظلوم سيق إلى حبل المشنقة تحت ضغط الشارع الشيعي الناقم عليه، وإن كان طاغية شرعن برعونته لدولة القطب الواحد كي تحتل العراق بلد العراقة التاريخية والأمجاد الإسلامية بغداد الرشيد وفتح الشهية للتدخلات غير المحقة في سيادات دول المنطقة. وبقتله على يد من لا يملكون تنفيذ العقوبة دخلت العراق متاهة الفراغ الدستوري الذي لم تستطع دول العالم كله أن توصده، كما تفاقم الصراع الطائفي والحزبي المكبوت في عهده.
أما (مبارك) المتهالك حسياً ومعنوياً فقد سيق إلى قفص الاتهام تحت ضغط الشارع العام بكل تهيجه وغوغائيته وضغائنه واحتقاناته، إذ لم تكن كافة المؤسسات المؤقتة في الداخل حفية بهذا الإجراء الإرضائي ولما يكن الرأي العام العالمي متوقعاً مثل ذلك.
والعقلاء المجربون قد لا يتفق سوادهم الأعظم على افتعال تلك الإجراءات غير المجدية، والانصياع لهتافات العقل الجمعي سيفتح أبواباً يشقى بإغلاقها المعنيون بالمرحلة الانتقالية بكل حساسيته كما لا يرضون ببقاء السلطة بيد الشارع الفاقد للتقدير والتدبير والتفكير، ولا سيما أن تجربة الثورات العربية التي ظلت كلها مرتهنة للنفس الثوري المعسكر ولما تنتقل بعد إلى سلطة المؤسسة المدنية أرهقت الشعوب العربية بالأحكام العرفية والمؤسسات البوليسية والسجون والمقابر الجماعية وفوتت عليها فرص التشكل (الديموقراطي) والتأسيس النيابي.
والحكومة المؤقتة ومقدرات الأمة المحكومة بصيحة العامة مدعاة إلى مزيد من الفوضى غير الخلاقة، وهذا الوضع غير السوي لا يقل خطورة عن بقاء السلطة بيد العصابات الثورية بلغتها العسكرية، فالعامة تظن أن الهتافات واللافتات والتكتلات الحزبية والطائفية هي الحل الوحيد للخروج من رواسب الماضي ومآزق الحاضر، ومن المتفق عليه أن دور المظاهرات ينتهي بمجرد كسر حاجز الخوف وتعويض الأصنام التي لا تحمل طهر الصنم الجاهلي. والمؤكد أن إصلاح ما أفسده تعاقب الحكومات الثورية المعسكرة لا يتم بين غمضة عين و انتباهتها، والهدم وإعادة للبناء لكل منهما متطلباته من الجهد والوقت والمال والتخطيط فما تم بناؤه لسنوات يمكن هدمه بساعات. ولمحدودية التفكير لدى الرأي العام يصور للأمة أنه بمجرد سقوط الأنظمة تتدفق الخيرات من كل جانب ويعم الرخاء ويشيع الأمن ويبدو الاستقرار، هذا التفكير المتسطح أبقى على المظاهرات والاعتصامات وشكل حركة الحكومة الانتقالية وأكرهها على الاستجابة لمطالب ثانوية تؤخر ولا تقدم لأنها جاءت على حساب مهمات أولية. ولعل من بينها فتح ملفات الفساد ومحاكمة رموزه.
والظروف العصيبة تؤكد أنه ليس من مصلحة الشعب المصري المنهك تصعيد مشاعر الانتقام وملاحقة المتهمين الذين لم يعد لهم أثر على مجريات الأمور وإفراغ الشحنات العاطفية بملء شاشات القنوات الفضائية بفصول مهزلة المحاكمات وصور الرموز وهم أذلة صاغرون فـ(أجندة) الثورة الشعبية مليئة بالمهمات الجسام المهمشة بسبب الاحتقانات وحب الانتقام، وما لم تعِ الأمة فقد الأولويات فإن الثورة البيضاء ستذروها الرياح، وملاحقة مسؤولي النظام السابق لا يملأ بطناً جائعاً ولا يستر جسماً عرياناً ولا يبل عرقاً ضامئاً ولا يعيد أمناً مفقوداً ولا يبني اقتصاداً منهاراً. والإمعان في التشهير وتصفية السمعة أو الأجساد ليست من أولويات الثورة الشعبية وقد يخلق هذا التصرف ثورة مضادة فالشعب المصري ليس لديه إجماع على تجريم الحكومة السابقة، قد يتفق على سوئها، ولكنه حتماً لن يتفق على تجريمها، ولقد شهدنا صدامات بين الناقمين والمتعاطفين على رموز النظام السابق، والرئيس (حسني مبارك) الذي أمضى نصف قرن في مختلف قطاعات الدولة ونيف عمره على الثمانين لا تليق بمثله هذه المظاهر والشعب المصري عرف عنه التسامح والصفح، وقدوته رسول الرحمة الذي قال لمن آذوه وطاردوه وأخرجوه من أحب البقاع إليه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) (ولو كانت المحاكمة ستحلحل الأوضاع إلى الأحسن لقلنا: حيّ هلا ثم إن (مبارك) ومن معه جزء من أنظمة ثورية عسكرية ليست خيار الأمة، فالانقلابات العسكرية الدموية أخرجت للأمة العربية أنظمة مستبدة فيها فظاظة في الأخلاق وغلظة في القلوب والرئيس المنحوس وحاشيته ليسوا بدعاً من الزعماء الذين صَنَّمهم الإعلام وماتوا على ذلك، فهل يبلغ الاهتياج بحكومة الغوغاء حد نبش القبور وفتح الملفات المنتنة ومساءلة ما سلف من أنظمة ليست باقل سوءاً من نظام (حسني مبارك) الذي أدركته حرفة التداعيات الثورية وبطأت ببقائه ثقته بنفسه وبزملائه العسكر عن النفاذ بجلده كما فعل (زين العابدين بن علي). وإذ سقط النظام الذي لم يكن بدعاً من الأنظمة بإرادة شعبية حرة فإن من الخير للمنتصرين لأنفسهم أن يتيحوا الفرصة لإصلاح ذات البين. وملاحقة رموز النظام السابق لن يقف عند الرؤوس المدبرة ولا عند الأحياء الذين أدركتهم غضبة الشعب المتأخرة، فـ(حسني مبارك) لا يختلف عن (جمال عبدالناصر) ولا عن (أنور السادات) ومن شايعهم ومثلما أن (بشار الأسد) نجل أبيه فإن (علي عبدالله صالح) حلقة في سلسلة صئة بُدئت بـ(عبدالله السلال) ومن تمسك بفتح ملفات الحاضر وجب عليه استدعاء ما سلف ونبش القبور، وفي ذلك استنزاف للجهد والوقت والمال واشتغال بالمفضول وتلطيخ لتأريخ اجترح الإعلام تلميعه وتزييفه، ومن ذا الذي لا يتصور فداحة الفساد والاستبداد وسلب الحريات الممتد منذ ثورة «حسني الزعيم» وفوق هذا فتاريخ مصر الحديث يمتد من ثورة «يوليو 1952م» والعقود الثلاثة التي قضاها «مبارك» على سدة الحكم جزء من هذا التاريخ فإذا كشفت المحاكمة عواره تداعت عقوده وأحقابه ولم يعد لمصر تاريخ حديث مشرف، وتقصي المقترفات والتفتيش في الدفاتر القديمة يلوث التاريخ الذي نشأت الأجيال على تمجيده وتصنيمه، والحل المناسب أن يقول قادة الثورة ومحركوا الجماهير «عفا الله عما سلف» على أن توجه كل الطاقات وتكثف كل الجهود لصياغة الدستور السياسي والقانون المدني بحيث يحفظان الحرية ويتوفران على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتداول السلطات وتوفير الأمن والرخاء والاستقرار وتجنيب البلاد خطر الفراغات الدستورية وبناء الاقتصاد والتعليم وسائر المؤسسات المدنية وإشاعة ثقافة الانتخاب والخلوص من الولاءات الجانبية فمصر واسطة العقد العربي ومن مصلحة الأمة العربية أن تستعيد عافيتها وأن تبني كياناتها بعيداً عن الغوغاء والاهتياجات العاطفية، ومحاكمة رموز النظام في هذه الظروف العصيبة ستلهي الشارع عن كل مكرمة، وسواء ظل الرموز وراء القضبان أو تحت الثرى فالمهمات الجسام تجاوزتهم وليست مرتهنة لحياة أحد منهم أو موته. والحكومات المؤقتة لن تقدم حلاً للمشاكل المستعصية إنها لمجرد تصريف الأمور وإطالة أمد بقائها سيكون على حساب أهداف الثورة وإشغالها بالمحاكمات والمحاكات سيلهيها عن إتمام مهماتها المؤقتة. كما أن المجلس العسكري المرتبك لا يقدر على بدء مرحلة العودة إلى الحكم المدني فضلاً عن حل المشاكل القائمة، وبخاصة حين يحمل كرهاً على إدانة رمز من رموز القادة العسكريين الذين أبلوا بلاء حسناً في حروبهم مع إسرائيل.
إن على الشعب الذي أسقط الحكومة القائمة بالغلبة لا بالاختيار أن يستحث الخطا لإقامة حكومة مدنية منتخبة تفكر وتقدر وتنقذ البلاد من الفوضى والانهيارات الأمنية والاقتصادية.
والناصح لمصر يود لو أن الجهود كلها صرفت لوضع البنى التحتية حسية كانت أو معنوية، فلم يعد باستطاعة مصر أن تحتمل مثل هذه الأوضاع المتردية. ومحاكمة رموز النظام السابق يتطلب تجهيزات أمنية وقضائية وفتح ملفات متعددة واستدعاء شهود وكشف عورات تمس سمعة مصر، وكل ذلك من الاشتغال بما دون الواجب، والنتيجة بعد سنوات عجاف حكم توافقي يعيد المتهمين من الأقفاص إلى الزنازين، فدعوهم في زنازينهم حتى تأخذ الأمة أنفاسها. ولا أحسب أحداً من تلك الرموز يحتمل مزيداً من العذاب فمجرد السقوط جماع الويل والثبور وفي ظل هذه الاهتياجات والاحتجاجات ستظل الثورة الشعبية في مصر تعيش زمن التيه، ولما تهدِ قومها سبيل الرشاد، وإدارة نوازل مصر بالهتافات والاعتصامات والاضطرابات يحرض على فتح ملفات الطائفيات والتنظيمات والأقليات ويعرض وحدة البلاد للخلل، ومن ثم تشفي بعملها الفوضوي صدور الحاقدين والمتربصين والمخذلين برهاناتهم المخيبة للآمال ويجعل الربيع صهيونياً لا عربياً.
فليعتصم المصريون الأوفياء لوطنهم ولأمتهم العربية بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا وليعطوا القوس باريها وليوطنوا أنفسهم على مراقبة المرحلة الانتقالية مرحلة النقاهة والإنعاش فما أفسدته الأنظمة البائدة في عقود لا يمكن إصلاحه في أيام. وعلى أولياء الشهداء احتساب الأجر عند الله.