أضاف الشعب الياباني ميزة أخرى إلى سجله الحافل بالتضامن والتلاحم الوطني والإبداع اللامحدود للعقل البشري عندما يكون حُرًّا، وذلك بالطريقة التي تعامل بها مع أكبر كارثة بيئية حدثت في العصر الحديث. الكارثة التي حلَّت باليابان قبل شهور عدة محت شريطاً ساحلياً بطول المئات وعُمْق عشرات الكيلومترات من خريطة الحياة. هزات أرضية غير مسبوقة القوة وموجات بحرية عاتية حوَّلت المدن والقرى والمصانع في طرفة عين إلى ركام، وكان ذلك هو الضرر الفوري المباشر، لكنه لم يكن الأفدح. الكارثة الحقيقية كانت في تصدع محطات الطاقة النووية القريبة من السواحل المنكوبة وانفطار دروعها الوقائية وتسرب كميات مهلِكة من الإشعاع والمواد المشعة على امتداد المناطق المنكوبة، وإلى ما هو أعمق داخل اليابسة. تعرض كل شيء يقع في ذلك المجال، بما في ذلك الحطام والمزارع والمركبات والدراجات والأنسجة والأدوية وكل المواد الاستهلاكية والأسفلت والقشرة الأرضية، أي باختصار كل شيء تحوَّل إلى كمية هائلة من المادة الملوثة بالإشعاع، ولا يمكن الاقتراب منها ومن جوارها لعشرات أو مئات السنين، بل يجب الإسراع في تجميعها وضغطها إلى أحجام صغيرة وكبسها في حاويات الرصاص ومن ثم التخلص منها بطمرها في أعماق الأرض. إن لم يتم ذلك بطريقة علمية فائقة الدقة فسوف تبقى هذه المواد لأزمنة طويلة مصدر خطر مدمر على المنطقة المصابة وعلى اليابان بالكامل وعلى الحياة البحرية في المحيط الهادئ على العالم كله. لكن، وهنا تكمن عوامل التميز الحضاري، مَنْ هو الذي سوف يتحمل المخاطر المهلكة في التعامل المباشر مع الكم الهائل من التلوث الإشعاعي؟ وكيف يستطيع القيام بذلك؟ وكيف ينبغي تدبير خطوات الإغاثة السريعة للأحياء الباقين من سكان المناطق المنكوبة؟.. باختصار شديد تتلخص الإضافة الحضارية الإعجازية من الشعب الياباني في التعامل مع الكارثة في الخطوات الآتية:
1. تم إخلاء السكان بسرعة قياسية من المناطق المنكوبة إلى الداخل بعيداً عن الركام والتعرض المباشر للإشعاع، وتم إيواؤهم في قاعات المدارس والجامعات ودور السينما والملاعب الرياضية وفي كل ما هو صالح للإيواء المؤقت اللائق.
2. تم جمع جثث القتلى من البشر ومن الحيوانات النافقة واللحوم والألبان وكل ما هو عرضة للتفسخ والفساد في الأسابيع الأولى، والتعامل معها بالطرق النوعية المناسبة.
3. أُعدَّت بطريقة شبه فورية مدارس ميدانية وجُهِّزت بما يلزم من الطواقم والمواد التعليمية لتجسير الفجوة العلمية المتوقعة عند تلاميذ وطلاب المناطق المنكوبة أولاً، ولمنحهم الإحساس بأن الحياة لن تتوقف، ويجب أن تسير نحو الطبيعي ثانياً، ثم لتقصير مدة الانكفاء الذاتي عند الناس والصغار بالذات وتفادي الانهيار أمام هول الكارثة فيما لو طالت مدة المعاناة وطال الانقطاع عن السياق المعتاد للحياة.
4. هنا تأتي الإضافة الحضارية الأهم والتضحية الأكبر في سبيل الوطن، حين تطوع عشرات الألوف من المتقاعدين والمتقاعدات اليابانيين الكبار للتعامل الميداني المباشر مع المناطق المضروبة مباشرة بالتلوث الإشعاعي، وعللوا ذلك كما يأتي:
أولاً: نحن كبار في السن، ولم يعد لدينا الكثير مما نقدمه لليابان؛ ولذلك نفضل القيام بالمهمة حفاظاً وحماية لشباب اليابان من الأخطار؛ لأنهم هم الثروة الحقيقية لبلادنا.
ثانياً: نحن لدينا الخبرة المكتسبة الطويلة في التعامل مع المشاكل في مجالات التوجيه والإدارة والتنظيم والإنقاذ والتعرف على مكامن الخطر عند الدخول إلى المناطق المنكوبة، علاوة على ما هو معروف من بطء تكاثر الخلايا البشرية عند المسنين؛ ما يعطيهم ميزة نسبية عند التعرض للإشعاع؛ إذ كلما كانت خلايا الكائن الحي المتعرض للإشعاع صغيرة وشابة زادت احتمالات الإصابة بالسرطانات والتحول الجيني القابل للتوريث على شكل تشوهات خلقية في الأجيال القادمة. هكذا تعاملت اليابان بعبقرية العقل الحُرّ والالتزام الوطني الحضاري مع الكارثة الكبرى بما يشبه الصمت ودون النواح والعويل واستجداء مساعدات الآخرين التي نعهدها عند شعوب لا توظِّف عقلها وروحها معاً في التعامل مع مشاكل الحياة. عندما أتذكر الصياح والنواح وصرخات الاستغاثة بعد كل موسم تزيد أمطاره قليلاً عن حسابات الأرصاد، أو موسم جفاف تشح أمطاره عن حسابات متوسلي الإغاثة من العالم الخارجي، عندها أرفع عقيرتي صادحاً بأعلى صوت: لله در اليابانيين، ما أعظم عبقريتهم في التفكير والتنظيم والتنسيق وحسن الأداء.
ملاحظة استباقية: إنني لا أقصد ولا أتقصد المنكوبين بفائض المطر أو مواسم الجفاف في منطقة جغرافية معينة بحد ذاتها، لكنني أقول إن هذه الجغرافيا تمتد من بنجلادش شرقاً إلى ساحل الأطلسي غرباً، وتشمل كل ما بينهما من الشعوب والأوطان والعقليات.