العلاقات الاجتماعية الحالية أصبحت جامدة وصامتة وغير طبيعة وتشبه صور المرايا المتداخلة وأفلام الكراتين المتحركة التي لا تحوي المشاعر ولا معانيها، العلاقات الاجتماعية الحالية صار لها إخفاقات وتنصلات وتفاصيل ممسوحة وقد مضت بعيداً عن الإيرادات العقلية والرغبات الحسية والتلاحمات الفريدة.
فمشهد العلاقات الاجتماعية اليوم أصبح محتدماً وملتبساً ومقزّزاً ونافراً ومشوّهاً إلى حد بعيد، لقد أصبحت العلاقات الاجتماعية مثل نصوص مثقلة بالرمز، ومثل لافتة عريضة طويلة وكلماتها صغيرة، ومثل قنبرة وحيدة فوق تل حائرة بين البقاء والرحيل، لقد صارت العلاقات الاجتماعية جلها اليوم انتهازية وابتزازية ومصلحية ونفعية ومادية وليس بها روح أو أدنى توهج، بل أصابها الخريف وانحرف عنها الربيع، الاشتياقات القديمة والتجمّعات النقية والألفة العالية والحنين الحنين والركض نحو الآخر والهتاف الجميل والروح الملتهبة بالتميّز والبشاشة الكبيرة والمحيَّا البهي والنفس التوَّاقة والصدق المميّز والأمانة المثلى والاحتفال الأبيض، معظمها قد حلّ عليها زمهرير الشتاء وخيّم عليها هجير الصيف الحارق، لم يعد عشب العلاقات الاجتماعية اليوم عالياً، ولم يعد مطلاً على الروابي، بل صار مثل رمل بين الصخور المتناثرة في حفره معتمة، أو كغيمة خفيضة لا تسقط المطر، أو مثل حنين رمادي باهت، أو مثل ناي حزين، ومثل أمل يلوح ويختفي، ومثل نجوم السماء البعيدة القابعة بين الغيوم المهاجرة، أن العلاقات الاجتماعية العميقة التي كانت تشبه السفوح الندية الخضراء، والوديان الممتلئة والمتداخلة مع بعضها البعض، والجداول والينابيع المتدفقة بالماء الزلال، والجبال المكتظة مع بعضها الآخر، وطيف الفجر الوردي المسكون بعباءة الندى، إنما هي أشياء عتقية تحوّلت اليوم إلى ما يشبه التراب والبرد والثلج والجسد العليل الذي لا يقوى على المشي، إن العلاقات الاجتماعية والنواميس ذات الأبعاد الإنسانية والمسؤوليات الجسام لم تعد ممكنة الآن، وإن كان بعضها النزر بقي لكنه يترنح مثل طائر جريح، إنه من أجل علاقات اجتماعية إنسانية زاهية بعيدة عن الماديات والأطماع ومحاولة التفرّد، لا بد من تحطيم مخالب جفاء العلاقات، ومنصات قسوة الروح، ومعالجة الرئات الممتلئة بالأتربة والأدخنة، وإعادة تقويم الأذان المشبعة بالضجيج المقيت، وإزاحة تأسد السواد وجذوته وشالاته، وشل خوار الأفواه الهامزة اللامزة بالوشايات، وتنحية ديناصورات وإخطبوطات الشكوك والظنون، وحسر التفاهة وتصيّد الأخطاء على الأخطاء، وتقشير الروايات المقزّزة والحكايات المجانية، وإزالة رائحة الجهل وزناخة الكلام الرديء، ولجعل العلاقات الاجتماعية الإنسانية الحسية تتسع في الرئتين، وتتوسط النفوس، وتنشط وسط غابات الدخان، وترتقي هية المصاحبة والمجالسة، على الكل أن يبتعد عن الأقبية السرية، والروايات الصفراء، والتماثيل البهلوانية، وسرد الكلام المبهم، والحقائب المليئة بالبهت، وفراغات الحديث الممل، واللهو على حساب الآخرين السعداء، إن على الكل ومن أجل الشمس والهواء والرغيف الجميل وصوت البلابل ولون السنابل وفصل الربيع وزقزقة العصافير وسحر الفجر وشكل الزرع وبراعة الرسم والوردة والياسمين وتباشير الصباح وروعة الكون وأناقة الضوء، أن يوقف زحف مداحل الفناء، وأزاميل القطع، وجنون البعد، وعفانة الصدع، ودبق الهجر، والإيماءات المعيبة، وتورم الذات، وعنجهية التعالي، ويغدو مثل الحلم والزنبقة والزمردة والضوء والأعجوبة ونافذة المطر وثوب الصباح المزدان بالندى والرذاذ الخفيف.
ramadanalanezi@hotmail.com