في كثير من الأحيان تبدو الأمور أمامنا جلية واضحة، لا تحتاج إلى من يبرهن عليها، أو يعرف بطبيعتها، أو يرشد الآخرين إليها، إما لما تواتر عنها من أخبار، أو لما تحمله في تركيبتها من معانٍ ودلائل واضحات، لكن هذه الأمور وعلى الرغم من ذلك قد لا تلفت الانتباه، ولا تعطى ما تستحقه من دروس التفكر وعبر الاعتبار، مرت على من سبقنا وتمر بنا مرور الكرام، ولهذا تتكرر الأخطاء والزلات ونقع في الحفر التي ما كان لنا أن نقع فيها لو أخلصنا وصدقنا في توظيف دروس الخبرات السابقة، أو أمعنا النظر في مآلات ما يمر بنا من مواقف، لكنه الإنسان يظل دائما في مواقف التعلم حتى الممات.
ومما يحسن التعلم منه، والوقوف عنده، تلك الكلمة المختصرة التي لم تستغرق من براين دايسون غير ثوانٍ معدودات، حيث خاطب منسوبي الشركة التي يديرها بقوله: « تخيل الحياة وكأنها لعبة من خمس كرات، تتلاعب بها في الهواء جميعا مع حرصك التام على ألا يقع أي منها على الأرض، هذه الكرات هي: العمل، العائلة، الصحة، الأصدقاء، الروح، سوف تدرك عاجلا أن العمل كرة مطاطية، كلما ارتطمت بالأرض عادت إليك، بينما الكرات الأربع « العائلة، الصحة، الأصدقاء، الروح « مصنوعة من زجاج، إذا سقطت إحداهن لن تعود كما كانت عليه سابقا، فحتما سيصيبها خدش أو شرخ أو كسر أو أنها ستتحطم نهائيا.
عجيبة حال الناس مع هذه الكرات الخمس، ومبعث العجب كون الناس يقلقون جدا على العمل، ويخافون من فوات فرصة، أو الفشل فيه، على الرغم من كونه مثل الكرة المطاطية، فتجارب الحياة تثبت دون مواربة أنه لا مبرر للقلق والخوف، ففرص العمل كثيرة ومتيسرة، فإن فاتت فرصة فغيرها كثير، الواقع يزخر ويشهد بتوفر الكثير والكثير من فرص العمل الناجح، المهم العزيمة والإصرار والمثابرة، ولهذا فأمر هذه الكرة «العمل» يعد أمرًا سهلا متاحًا شريطة توفر الرغبة والإرادة والإصرار.
لكن ما يبعث القلق والخوف حال الكرات «الزجاجيات» الأربع الأخريات، فالصحة والعائلة والأصدقاء والروح هن اللاتي يحتجن إلى الكثير من الانتباه واليقظة والعناية الفائقة، لأن الخسارة في أي واحدة منهن تعد خسارة يتعذر بل يستحيل التغلب عليها مهما بذل من جهد، وسخر من إمكانات، فالخسارة في أي واحدة من هذه الكرات الزجاجية، ومهما كانت نسبة الخسارة ضئيلة ودرجتها بسيطة إلا أنها تعد خسارة جسيمة لا يمكن تعويضها، أو رأب صدعها وإصلاحها، فالتشويه الذي سوف يلحق بالكرة الزجاجية سوف يظل شاهدًا على مدى التفريط الذي أفضى إلى الخسارة، سوف يثير الألم والحسرة والقلق، ويؤثر على معطيات الحياة ومدى انسجامها وتوافقها مع النفس ومع المحيط الاجتماعي، لهذا يجدر إيلاء هذه الكرات ما تستحق نظرًا لأهميتها في حياة الإنسان.
وحيث إننا في شهر رمضان، وهو الشهر الذي تتهيأ فيه النفوس وتستعد للتغيير، ولديها القابلية التامة لاستيعاب المستجدات وتبنيها سلوكًا يتأصل مع قادم الأيام، من هذا المنطلق حري بنا أن نعنى بالكرات الزجاجية، أولا لأهميتها في حياتنا، وثانيا لخطورة ما يترتب على التفريط فيها، إهمالا أو مبالغة، فالصحة إذا لم يحافظ عليها وفق الحدود الشرعية، وتضبط وفق القيم المجتمعية، سوف يترتب على ذلك تشوهات تفقدها رونقها وبهاءها ويعرضها إلى مخاطر ومهالك لا يمكن السيطرة عليها وتجاوزها مهما كانت جدية المحاولات وإمكاناتها، فكم من الشواهد التي قال أصحابها بعد إهمال أو إفراط ياليتني، ولكن بعد فوات أوان التصحيح والإصلاح، لأن ما حدث لا يمكن التغلب عليه.
الحال نفسها تنطبق على الأصدقاء وعلى العائلة، فأي خدش فيها يشوهها ويعكر صفوها، ويحيلها إلى جحيم يكوي صاحبها كلما تعرض إلى الأسباب التي أدت إلى الخدش الذي يثير في النفس الندم والألم، لا سيما وأن الأصدقاء كما العائلة يعدان من المكونات الرئيسة في البنية المجتمعية للإنسان، لا يمكن الاستغناء عنهما بأي حال من الأحوال.
أما الروح التي تعد بمثابة جسر التواصل مع الله، فيجب أن تكون في منتهى الصفاء والكمال والجلال، فأي نتوء فيها فضلا عن الخدش أو الكسر، يفضي إلى تعثر مرور العبادات والطاعات، لأن النتوء في جسر التواصل مع الله يعوق سلاسة التمرير ومتانة العلاقة.
فهلا نوظف رمضان في إعادة تفهمنا وعلاقتنا وتعاملنا مع الكرات الخمس؟.
ab.moa@hotmail.com