ذات زمن بعيد، كتبت تحقيقاً مطولاً لإحدى المطبوعات السعودية بعنوان «الديمقراطية المنتقاة»، تحدثت فيه عن الديمقراطية الأمريكية، وكان من ضمن ما ورد فيه أنه لا يمكن لأي إنسان أن يفوز برئاسة أكبر وأقوى دول العالم، إلاّ إذا كان رجلاً أبيض مسيحياً من أصول ايرلندية, وتحديداً من المذهب البروتستاني، وقلت إنه لم يشذ عن هذه القاعدة إلاّ الرئيس الأمريكي جون كينيدي، والذي تحققت فيه كل المواصفات، عدا أنه كاثوليكي، وقلت حينها إن فوزه بالرئاسة كان بسبب ثراء والده، ودفعه الأموال الطائلة للفقراء ليتمكنوا من التصويت لفلذة كبده، وهي معلومات يعرفها كل من يتابع السياسة الأمريكية. عموماً كل الشروط السابقة ألغى معظمها في لحظة تاريخية الرئيس باراك أوباما، ولذا سيعيد المؤرّخون حساباتهم حيال هذا الأمر، شريطة ألا يتمكن «حزب الشاي» الجديد من قلب الموازين مستقبلاً، وهو أمر متوقع الحدوث، فالحراك السياسي في أمريكا - بعد فوز أوباما - أصبح يتسم بالجنون - حسب وصف كثير من المتابعين -.
بعد نشر التقرير، تلقيت لوماً شديداً من العديد من الزملاء الذين فهموا أنني أريد الانتقاص من « الحراك الديمقراطي الغربي»، واضطررت حينها أن أكتب مقالاً لاحقاً أوضح فيه أنّ النظام الديمقراطي الأمريكي نظام عريق لدولة مؤسسات ضربت أروع الأمثلة في الممارسات المدنية، وأكدت على أنني قصدت بالتحقيق أن أبيّن بعض مثالب «الديمقراطية»، والتأكيد على أنّ لكل نظام سياسي هناته التي لا تنقص منه بالضرورة!.
مناسبة الحديث عن هذا الأمر هو الموقف الغربي من الثورات العربية، فقد كان ولا يزال هناك خلاف حول ما إذا كانت الدول الغربية تدعم حق الشعوب في بحثها عن العدالة والديمقراطية، أو أنها تعمل لمصالحها الخاصة، كما هو الحال دوماً. لا زلنا نتذكّر التشديد الغربي على الرئيس المصري السابق بالتنحي، واضطر المتحدث باسم البيت الأبيض حينها إلى القول نصاً: «عندما نقول عليه أن يتنحى، فإننا نقصد اليوم لا غداً»!، وهو التصريح الذي ما زال محور جدل مستمر حتى الآن. بعد ذلك خفت حدة التصريحات الغربية ضد زعماء آخرين أسوأ من الرئيس المصري بكثير، فما هي الأسباب يا ترى؟.
هل كانت الثورة المصرية مفاجئة لدرجة أنّ الغرب لم يتمكن معها من قراءة الأحداث وتبعاتها قراءة سليمة؟، وبالتالي كانت ردة الفعل عفوية ومتسرعة ؟، أم أن القوى الغربية - حسب كثير من المتابعين - كانت ترى - في ظل ثورات الشارع - سهولة التضحية بزعيم، ومن ثم المساهمة بتجهيز بديل مختلف في المظهر ومتوافق في المخبر، وهو ما أثبتت الأحداث صعوبة تحقيقه، إذ لم يعد الزمن هو الزمن، ولا الناس هم الناس؟. من الواضح أن نتائج الثورة المصرية قللت كثيراً من وتيرة الحماس الغربي للوقوف مع الشعوب الثائرة، وقللت من منسوب النداءات التي تدعو الزعماء للتنحي. هذا، مع أن بعض هؤلاء الزعماء أسوأ من الرئيس المصري، ومع أن منسوب العنف الذي يستخدم أشد وأقسى مما في الثورة المصرية.
أيضاً كيف تتناقض ردة فعل أهم منظمة دولية حيال أحداث متماثلة في دولتين مختلفتين في الجغرافيا فقط؟، ففي إحداهما تفويض مباشر لتدخل عسكري دولي خلال أيام معدودة من قيام الثورة، وفي الأخرى تعجز المنظمة نفسها عن إصدار قرار إدانة، ناهيك عن تدخل عسكري، رغم مرور عدة أشهر على الثورة مع ما ارتكب فيها من مجازر يشيب لهولها الولدان.
وختاماً، نعود ونسأل، هل هي «الديمقراطية المنتقاة « عادت لتتعامل مع الأحداث العربية بانتقائية أيضاً؟ أم أن في الأمر سراً لا ندركه وقد يتبيّن مع الأيام؟.أياً يكن الأمر، فإنّ الواضح أنه يتوجّب على ساسة الغرب أن يجيبوا على أسئلة عسيرة يطرحها عتاة المحللين السياسيين كل يوم وبكل طريقة ممكنة، مع أن المتوقع أنهم لن يجيبوا، طالما أن مصالح بلادهم تسير حسب ما خطط لها !.
فاصلة: «لقد وصلت إلى قناعة تامة بأنّ السياسة أمر هام جداً... لذا لا يجب تركها للسياسيين وحدهم»... شارل دي قول.
amfarraj@hotmail.com