قلة من البشر هم أولئك الذين لا يفزعهم ذكر الموت ويتقبلون التذكير به بكل حب واطمئنان وهو دليل إيمانهم بالغيب والموت جزء من الغيب الذي امتدح الله به عباده المؤمنين وعلى النقيض منه أشار الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى أولئك الذين يكرهون الموت من المشركين ومن أهل الكتاب الحريصين على الحياة الدنيا وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ
وقد كان فقيدنا الكبير غازي القصيبي -رحمه الله- واحداً من الذين لم يرتاعوا لذكر الموت. وفي هذه القصة التي سأرويها دليل واضح على ذلك.
كنت في العام 82 ميلادي من القرن الماضي في عكاظ في بداية العمل الصحفي وكانت الصفحة الأخيرة منوعة خفيفة وأحررها تحت إشراف الزميل مصطفى إدريس وبالبحث عن مواضيع خفيفة وطريفة خطر لنا أن نطلب من الوزراء أن يكتب كل منهم وصيته وننشرها وكان المرحوم الدكتور غازي القصيبي وزيراً للصحة يومها وفعلاً أرسلنا الدعوات لعدد كبير من الوزراء ولم يستجب للفكرة أحد سوى غازي -رحمه الله-.
أرسل وصية جمعت بين روعة الأسلوب وعمق الفكرة وقوة الإيمان ورغم مرور هذه السنوات الطوال إلا أني لا زلت أتذكر بعضاً من هذه الوصية.
بدأها بالديباجة المعروفة في الوصايا من تأكيد الإيمان بالله وبالرسول وبالكتاب وبالغيب إلى آخر ما هو متعارف عليه في الوصايا بين المسلمين ثم انتقل إلى صلب الوصية وما يريد قوله فبدأ بالحديث عن المال وحطام الدنيا وأن حظه منه يسير لا يدعو إلى الخوف من افتتان الورثة به أو الاختلاف حوله ثم انتقل بعدها إلى الحديث العام:
(أما الأحياء فقد ضاقوا ذرعاً بنصائح بعضهم ولم يعودوا بحاجة إلى نصيحة من ميت مثلي)، نلاحظ هنا النقد الهادف لسلوكيات البشر الذين ضاقوا بالنصيحة وقد يأتيهم الموت وهم معرضون عنها ولعل في هذه العبارة مدلولاً لما كان يعانيه فقيدنا الكبير -رحمه الله- بحسه الأدبي المرهف وشاعريته وإنسانيته في مواجهة بعض المآسي ومحاولة النصح لكن لم تكن هناك أذن واعية، ولذا اكتفى بهذه الإشارة السريعة الموجزة ذات الدلالة العظيمة.
بعدها وجّه حديثه للناس مخاطباً: (أقول لكل الذين أحبوني بأنني ربما لست ذلك المثالي الذي تخيلتموه وأقول لكل الذين ابغضوني: إنني ربما لم أكن ذلك السيئ الذي كرهتموه)، وهنا أيضاً بعبارات قليلة يلخص معادلة العلاقة بين البشر وهي أن غالبية الحب والكراهية أو القبول والرفض قد لا يكون مبنياً على حقيقة أو معرفة واضحة، فقد نتخيل إنساناً جيداً ونحبه وهو أمر مطلوب ولكن أن نكره إنساناً بمجرد إشاعة أو ظن دون تكليف أنفسنا عناء التحري ولو قليلاً لكي يكون الموقف قريباً من الواقع ولو دققنا لوجدنا ذلك الذي تخيلناه سيئاً على العكس وهو ما أشار إليه الدكتور غازي رحمه الله.
وواصل وصيته بعد العبارات السابقة بقوله: (ولكنني أقول لك أنت يا من جبنت أن أصارحها بحقيقة مشاعري وأنا حي)، وأورد مقطوعة غزلية فنية جميلة للأسف لم يعد في الذاكرة منها غير البيت الأخير الذي اختتم فيه وصيته وهو للشاعر العباس ابن الأحنف.
وأنت من الدنيا مناي فإن مت
فليتك من حور الجنان نصيبي
كان هذا البيت هو ختام وصية كتبها غازي بخطه الجميل ونشرت في الصفحة الأخيرة من جريدة عكاظ بخطه مصورة وأتمنى من الزملاء في عكاظ لو يتم استخراجها من الأرشيف وإعادة نشرها.
وبالطبع كان غازي يومها في عنفوان شبابه وذروة عطائه الإداري كوزير للصحة ببصماته التي تركها وكان في قمة نجوميته الأدبية شاعراً وروائياً لكن مع ذلك استجاب للدعوة التي أرسلناها له في حين أن غيره ممن أرسلت لهم لم يكتبوا حرفاً واحداً ولو اعتذاراً عن تلبية الدعوة.
رحم الله غازي القصيبي الذي رحل عنا بجسده وبقى فينا خالداً بمآثره التي ستظل قدوةً ونبراساً في جانب المسلك منها وبالذات في مجال الإدارة والقدرة على تحمل أمانة المسئولية بكل إخلاص ونزاهة واقتدار وسيظل عطاؤه الأدبي معيناً لا ينضب تنهل منه الأجيال وبقي أمر أشير إليه هنا وهو أن غازي القصيبي كان من رواد العمل الخيري الإنساني في المملكة، فقد ساهم في تأسيس جمعية البر وهو في سنوات حياته الأولى.