|
يكفينا أن نستعرض جزءاً من المنطق غير البراجماتي الذي تنطلق منه الأنظمة العربية في تعاملها مع أحداث تجري في بلدانها (إن لم تكن تعترف أصلاً بأنها أوطان لها حرمتها وتداخلها مع الوجدان والذات)، لنعرف أن أشياء ناقصة لدى العرب في التعليم والتربية وفلسفة الحياة وفهم منطق الأشياء وتعامل الناس من حولنا معها؛ وكأن أقطارنا أجزاء مبتورة من الكون لا تصح عليه أحكام وإجراءات طبقها البشر لآلاف السنين.
هل تأملنا ما تقوله الأجهزة الرسمية السورية عن أسباب ما يجري هناك وطبيعته وتطوراته؟ سنجد أن ما يجمع تلك الادعاءات والأوصاف لما يجري من أحداث – وفق وجهة النظر الرسمية – علتان: الأولى تتمثل في مؤامرات خارجية على سوريا يقودها الغرب المقهور (من تقدم سوريا ومنافستها له؟) والصهيونية الحاقدة (على سوريا بسبب إنهاكها لإسرائيل عسكرياً وزعزعة أمن الجولان الذي لم يعرف الهدوء منذ 40 عاماً؟!) والمتآمرين مع الخارج من السوريين الخونة (الآلاف الفارين من قسوة النظام إلى الخارج، أم الملايين في الداخل الذين يتظاهرون ضد النظام في أغلب المدن السورية؟!). أما الثانية فيعدها منظرو النظام خلايا العصابات الإجرامية والمنظمات الإرهابية التي تندس بين المتظاهرين السلميين (الذين يحفظ لهم النظام حقوقهم في التظاهر، ويوفر لهم الأمن!).
لنفترض أن العلتين صحيحتان؛ فالأولى لا تحدث اضطراباً إلا إذا وجد عدد كبير من مواطني بلد يسعون للتعلق بتلك المؤامرة، والبحث عمن ينجدهم إزاء ظلم أهلهم بالداخل. هذا إذا كانت غضاضة عقولنا ستقبل أن العالم بأجمعه لم يعد له هم إلا التآمر ضد سوريا؛ لكن رجاحة حلم النظام تستمر في الادعاء بأن ذلك التكالب عائد إلى كون سوريا رمز المقاومة الوحيد في الشرق (وهو ما لم تستوعبه عقولنا الغضة بعد!). وكذلك العلة الثانية يصعب على عقولنا الغضة استيعابها؛ فإذا كانت تلك العصابات الإجرامية والمنظمات الإرهابية قد تغلغلت بهذا الشكل في بلد المقاومة، فأين كانت منها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية قبل أن يستفحل أمرها؟ أم أنها من النوع الذي يتسامح معها النظام من أجل تصديره إلى العراق، أو لانشغاله بحربه الطاحنة مع إسرائيل (نقصد مع بعض فئات لبنان!). مثل تلك المجموعات المنظمة لا تصل إلى هذا الحد من الخطورة - ولتعذرنا أجهزة النظام لغضاضة عقولنا – إلا بعد فترات طويلة من التأسيس وتكوين البنى الهيكلية واللوجستية اللازمة.
وهل توقفنا عند تخبط الأجهزة الرسمية الليبية إزاء ما تصف به الأوضاع الداخلية هناك وتداعياتها الدولية؟ ففي استخفافها بعقول البشر في الداخل والخارج لا تتوقف هذه الأجهزة عند حد. ولا يردعها الحياء، أو يحكمها بعض العقل في تصرفاتها، أو تبريراتها، أو دعواتها، أو بياناتها الإعلامية. ويذكرني هذا الاستخفاف بالعقول الغضة ما كان رأس النظام يرد به – في بداية الأزمة – على بعض المجموعات الشعبية التي كانت تخاطبه بضرورة الإصلاح والاستجابة لبعض مطالب الناس؛ عندما أعلن في تصريح إعلامي له، بأنه «إذا كنتم ترغبون في تغيير الدستور، ما فيه مشكلة. روحوا اجلسوا مع سيف (ابنه سيف الإسلام)، واكتبوا اللي تريدون... سيف يصلح للأشياء هذي!» يتصور هذا القائد الفذ أن تغيير بعض مواد الدستور أو تبديله بالكامل أمر لا يحتاج إلى أن يشغلوا به قائد الأمة (أو الثورة الجماهيرية أو كل هذه الأشياء التي اكتشف أصحاب العقول الغضة أيضاً أنها ليست وظيفة). ومع من يتباحثون بشأنها؟ مع شخص ليست له أي صفة رسمية، على الأقل في العالم المرئي! (والبقية في العدد القادم).