أقتبس من رد القارئ الذي كتب يقول لي: أراك متفائلاً حينما تقول إن التنويريين سوف يحصلون على الاعتبار الاجتماعي مثلهم مثل غيرهم. سوف تصدم بالواقع الذي ما زال يكفِّر مفكِّري الأمة من أمثال ابن رشد وابن سيناء على الرغم من جهودهم الجبارة التي تتفق عليها الأمم. لذلك لا تحلم كثيراً ما دامت المنظومة لم تتغير.. انتهى الاقتباس.
صحيح، ما دواعي التفاؤل بمستقبل مستنير لأمة ما زالت تتبرأ من عقولها العظام بعد مرور ألف عام على اصطفاء كل المجتمعات الأخرى لأفكارهم ومساهماتهم الجليلة في التطور والرقي العالمي. لماذا لا تحتضن هذه الأمة علماء العقول فيها ولو ببعض الدفء الذي تحتضن به علماء الشريعة واللغة ونجوم الملاعب والرقص والغناء، لكي يكون في المعادلة الاجتماعية مدعاة للتفاؤل ؟
لكن غير الصحيح هو نفض اليد والتشاؤم بالمطلق، إذ حبذا لو كان البديل هو التفاؤل أو التشاؤل، أو أقله التفاشم أي التفاؤل المشوب بالتشاؤم. فيما يخصني شخصياً أيها الأخ الكريم المنزعج من اختلال الموازين عبر تاريخنا الطويل دعني أطمئنك بأنني متفائل جداً راجياً أن تصحبني إلى نهاية هذا المقال.
أنت ذكرت اثنين من أعلام العقول في هذه الأمة على سبيل المثال، وهم بالمئات إن لم يكونوا بالألوف، لكن قل أن يذكر منهم أحد بالتفصيل اللائق في التعليم المدرسي، وليس ذلك منذ الأمس القريب بل منذ مئات السنين، يوم كانت تلفق للواحد منهم تهمة في المعتقد أو في الولاء السياسي فيموت كمداً ومكابدة ً أو يموت جوعاً في قبو مظلم. لكنك، وأنا متأكد من ذلك (بما استقرأته من أسلوبك وفكرك) تعرف أن هذا حصل في أزمة مختلفة. أيام غيب ابن الهيثم في قبو حاكم مصر حتى مات جائعاً مجنوناً ، وأحرقت كتب ابن رشد ونفي من دياره حتى انتهى معدماً ، واتهم ابن سيناء بالزندقة فاضطر إلى الفرار من بلاد حاكم إلى بلاد آخر، وكل ما كرت به السبحة من مثل ذلك، كانت في تلك الأيام تتوافر شروط ظرفية أربعة على الأقل لما جرى.
أولاً : أن الغلبة الدنيوية كانت لا تزال لبلدانهم وحكامهم آنذاك بالمطلق وبالكامل وبدون رقابة ولا تنافسهم فيها ممالك أو حكومات أقوى منهم ولا توجد منظمات أو هيئات حقوقية أو وسائل معلوماتية تنقل للعالم كله ما يجري في الداخل. الأسوأ من ذلك هو أن حكومات العالم القديم كانت كلها على هذا المنوال من توازن الرعب الخارجي والداخلي. نتائج تلك الظروف لم تقتصر على اضطهاد عقول دون عقول، بل امتد الاضطهاد إلى كل من رفع رأسه أو مد إصبعه أو حرك لسانه من علماء الدين والدنيا، وغالباً ما كان عالم الدنيا حينذاك ضليعاً متبحراً في علوم الدين أيضاً ولو لم يكن الدين مهنته التي يعتاش منها. الفرق هو أن عالم الدين المضطهد كان يبقى في الذاكرة الشعبية المتدينة، أما عالم الطب والكيمياء والفلك والفيزياء فلم يكن ثمة مبرر علمي أو إدراكي أو معرفي يبقيه في الذاكرة الشعبية فكان يسقط منها في اليوم الذي يختفي فيه.
ثانياً: ان ممالك ذلك الزمان كانت في النواحي المعيشية تطبق الاكتفاء الذاتي ولا تحتاج الواحدة إلى الأخرى إلا في بعض شؤون الكماليات. المسألة كلها كانت بعض قطعان المواشي والمراعي المفتوحة وحرف زراعية ويدوية، والكل يدفع ما هو مطلوب منه طلباً للسلامة. إذاً مسألة الحاجة إلى العالم الخارجي وتحسين العلاقة لتتعامل معه وإلا ارتبكت أمورك لم تكن موجودة ً بهذا المفهوم. ذلك كان يعني ضمناً حصانةً كاملةً ضد الاتهامات السياسية المتبادلة بالاضطهاد العنصري أو الظلم في التعامل مع
المواطنين والأقليات المذهبية والعرقية.
ثالثاً : ان شعوب ذلك الزمان كانت غائبةً عما يحدث في الداخل والخارج ولا يهمها سوى ما يحدث في محيطها المعيشي الضيق. ذلك كان يعني ضمنياً انتفاء المقارنة بين أحوال الشعوب والأمم المجاورة والبعيدة والاطلاع على ما قد يكون أسوأ أو أفضل منها. اليوم تغيرت الأحوال وصار العربي والإفريقي يغامر بحياته للوصول إلى السويد والنرويج أو إيطاليا على الأقل هرباً من الجوع وسوء الأحوال وانسداد المستقبل، لأنه يعرف ما يملكه الشمال وما ينقص الجنوب على الكرة الأرضية.
رابعاً : ان الدول في الأزمنة الحديثة صارت تبتز بعضها بعضاً تبادلياً بنشر الغسيل الحقوقي السياسي والاجتماعي بالصوت والصورة فينتشر الغسيل منشفاً ومكوياً يرفرف على الحبال خلال دقائق. لا أبالغ لو قلت لك أيها القارئ العزيز إن الدول الحديثة صارت تخاف من التسريبات المعلوماتية أكثر مما تخاف من الحروب والكوارث الطبيعية.
لذلك، وليس لهذه الأسباب فقط سوف لن تستطيع أية جهة اعتبارية أو اجتماعية أو سياسية أن تعاند كل العالم وتعزل نفسها، بل عليها واجب أن تريح وتستريح بتحقيق العدالة الاجتماعية والانفتاح وإلا عرضت نفسها لضغوط وابتزازات عالمية لا قبل لأي دولة ومجتمع بها.